دولة الظل
دَولةُ الظِلّ
في 5/2/2017
هناك على هامش المُجتمع في بلادِنا يقبعُ دائِماً مجتمعٌ آخر.. هو مُجتمَعُ الظلّ! قد يكونُ مُجتمَعاً من بناتِ إنتاجِنا أو مجتمَعاً طفيليّاً دَخيلاً. ويتجلَّى هذا المُجتمَع في صورةِ مُرَبَّعاتٍ أمنِيّةٍ حيناً، وفي صورةِ مُخيَّماتِ اللاجئِين السُّوريّين أو الغيتواتِ الفلسطينيَّة أحياناً، وأستثني حتماً سفاراتِ الدُّوَل، فهي أيضاً لها مُجتمعُها وكيانُها الخاصّ. هذه المُجتمعاتُ اللصيقة بنا، من لحمِنا ومن دمِنا، والتي ولَّدَتها الصِّراعاتُ الدّاخليَّة والإقليميَّة الطَّاحنة، مُجتمعاتٌ مريضة!! ولأنه لم تتوفَّر لها شروط الصِحَّةِ الكاملة، ولظروفٍ وأسبابٍ عديدة، لم تنمُ لتُصبحَ على مُستوى المُجتمَع الطَّبيعيّ. ولكونِها غيرَ مُندمِجَةٍ في المُجتمَعِ الطَّبيعيّ الكبير، بَقيَتْ دائِماً أبداً، جسماً غريباً رَديفاً أو دَخيلاً.
ثلاثٌ موجودةٌ في كلِّ مُجتمَع: المُستشفى ومُستشفى الأمراض العقليَّة والسِّجن. ولو نظرَ العقلُ التأمُّليُّ قليلاً في دَور هذه الكيانات في حياتِنا.. لوجدَه يُشبهُ إلى حدٍّ بعيدٍ دَورَ الكبِدِ والطِّحال في الأجسامِ الحيَّة، حيثُ أنَّها نِظام إعادة تأهيل الدَّم. إلى المُستشفى ومَأوى المَجانين والسِّجنِ تُرَحَّلُ “بكتيريَّاتُ المُجتمع” إذا جازَ لنا التَّعبير، على أمَل التَّصحيح وإعادة التأهيل. إلى المُستشفى يذهبُ المريض للشِّفاء، وإلى مُستشفى الأمراض العقليَّة يأتي غيرُ السَويِّ ليحصلَ على العناية لأجلِ حياةٍ أفضَل، وفي السِّجن يوضعُ المُجرمُ لينالَ العقاب وتتحوَّلَ حياته بعدَ قضاءِ مُدّة العقوبَة نحوَ الصّلاح والاستقامَة. هذا من حيث المَبدأ.. ولكن شتَّانَ بين النَّظريَّةِ والتَّطبيق!
كنتُ ذاتَ يوم في سِجنِ رومية المَركزيّ، أعلـِّمُ نفَراً من السُّجناءِ فنَّ الرَّسم والتَّصوير، في إطار عملي كمُساعدٍ اجتماعيّ، فقالَ لي واحدُهم:
“هل تسمحُ لي يا أستاذ بالانصراف؟”، سألتُه:
“ماذا وراءَك؟” فأجاب:
“عندي اليَوم واجبُ عزاءٍ. لقد توفِّيَ والدُ سجينٍ صديقٍ لنا”، فسألتُه من فوري وقد أدهشني جوابُه:
“أين؟!”، فأجاب أيضاً:
“هنا في السِّجن”، فسألتُه بنبرَةِ مازحَة:
“وهل هناكَ مَجلسُ تعزيَةٍ هنا في السِّجن؟!” فأجابني بالإيجاب.
وعرَفتُ بعدَ يومين أنَّهم يُقيمون مجلساً للتَّهاني أيضاً، والمناسباتِ السَّعيدَة! خصوصاً زواج وَلدٍ من أولادِ السَّجين.. لأكتشِفَ بعد ذلِكَ أنَّ هناكَ ديناميَّةً اجتماعيَّة طريفة دائِرَة وراءَ القضبان، ومُجتمعاً آخرَ رديفاً لمُجتمعِنا. ولكنَّ مُجتمَعَ السِّجن يحوي كلَّ العناصر الرَّديئَةِ المُرفوضَة من المُجتمَعِ السَويّ، إنَّه مجتمَعُ الظلمَة.. مُجتمَع الأمراض.. مُجتمَع العالم السُّفليّ.. مُجتمَع العبَث.. مُجتمَع المَوت.. وربَّما أيضاً مُجتمَعُ الثورة!
قال لي أحدُ السُّجناءِ يوماً عن سَجينٍ آخر، أنَّه محكوم (مؤبَّد) وهو مُصابٌ أيضاً بداءِ السَّرطان! فحَدَثتُ نفسي: “أيُّ لعنةٍ مُخيفةٍ حلَّت على هذا الإنسان؟!”. ولكنِّي رأيتُ ذاتَ يَوم، من النَّافذةِ المُشرفة على الباحة، سَجينَين يحملانِ سجيناً ثالثاً عارياً كسيحاً مُقعداً على حمَّالةٍ من قماشٍ ويَضعانه في الشَّمس. فاستعلَمتُ عنه وقيلَ لي:
“أصيبَ بالفالِج.. وصارَ مشلولاً عاجزاً بالكامل.. وسيخرُجُ بعدَ سنة!”. سألتُ أيضاً:
“من يهتمُّ به في الغرفة.. من يَغسِلُه ويُطعِمُه؟!” فأُجِبْت:
“هذان السَّجينان اللذان يَحملانِه ويُشمِّسانِه”. وقالوا لي أنَّهما يفعلانِ هذا طوعاً بلا مُقابل.
فأعجِبْتُ بالسَّجينَين واستراحَ قلبي. وشكَّلَ هذا المشهدُ عندي بُقعَةً مُشرقة مُضيئَة وسطَ لوحةِ السَّوَاد المُرعبَة في المُجتمَع السِّجنيّ. في السِّجنِ مَرضى.. ومن كلِّ الأمراضِ المَعروفة، والمُزمنَة منها والمُستعصية، الآيدز والسَّرَطان وداءِ المفاصل والسُكَّري ووجَع الرّأس… إلخ. وفي السِّجن مَرضَى نفسيِّون ومَجانين، ومُراهقون مُجرمون خطيرون. وفي السِّجنِ عِصاباتٌ تشكَّلت حديثاً وراءَ القضبان، تتحارَبُ لأجلِ المصالح والحاجاتِ اللوجستيَّة البَسيطة للسَّجين. ويُؤلِّفُ هذه العصاباتِ أحياناً نوعُ الجَريمةِ الواحد، أو العقيدةُ المُشتركَة، أو اللَّونُ الطائِفيٍّ.. واللَّعنةُ الطّائفيَّةُ موجودَةٌ حتى في جُهنَّم!
في السِّجنِ مثقَّفون وحملةُ شهاداتٍ عالية، كتّابٌ وشُعراء. وفي السِّجن رجالُ أمنٍ ودِينٍ ودَولة ومُدراءُ وأطبَّاء وقادةٌ سُجناء.. لا يتميَّزونَ عن باقي السُّجناءِ حتى ولا في المَظهر!! وفي السِّجنِ أيضاً تلامذةٌ يتابعون التَّحصيلَ العِلميَّ في الجامعات بواسطةِ خدَماتِ الجَمعيَّات، والأحداثُ يتعلَّمون المِهَنَ الحُرَّة. وفي السِّجنِ فنَّانون مُبدعون في الطّرَبِ والعزفِ والرَّسم، ورياضيُّون بارعون، وطلبَةٌ يتعلّمون اللُّغاتِ الثلاث. وبكلامٍ آخر.. السِّجنُ صورةٌ سالبَةٌ عن المُجتمَعِ الخارجِيِّ الكبير! إنَّه مَملكةٌ شِرِّيرةٌ صَغيرَة.. إنَّه دَولةٌ في الظِلِّ.