وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

محنة الكتاب في رواية (طُبِعَ في بيروت) لجبّور الدّويهي

محنة الكتاب في رواية (طُبِعَ في بيروت) لجبّور الدّويهي

محنة الكتاب في رواية (طُبِعَ في بيروت) لجبّور الدّويهي

لقد التبَسَ عليَّ وأنا أقرأ في رواية (طُبِعَ في بيروت) للرِّوائي اللّبناني جبُّور الدُّوَيهي، الصّادرَة عن دار السّاقي 2016، تحديدُ بطل الرِّواية.. بينَ زحمةِ شخصيَّاتٍ يملكون مساحاتٍ متقاربة فوق جغرافيا الرِّواية: أهو الكاتب الشَابّ فريد أبو شَعر وأسلافُه رواةُ كتابِهِ الغريب، أم مَطبعَة كرم إخوان 1908؟ ثمَّ بيرسيفون زوجة صاحب المطبعَة، وعامل المطبعة العتيق المعلّم أنيس الحلواني، فالخطّاط البازرباشي، المحقّق الهولندي جوب فان دوكليرك، أتُراها الآلة الطابعة الهايدلبرغ XL 162،… أم هي مخطوطة الشَابّ فريد الذي لم نعرف عنها شيئاً سوى أنّها كتابٌ يخلط بينَ الشِّعر والسِّيرَة.. وبعنوانِها الطريف: الكتاب الآتي، كلمات، آيات، نصوص، وانتهى أخيراً بـ(الكتاب) وحيداً؟ مع إهداءٍ غريبٍ (إليَّ) وغيابِ اسمِ الكاتب على صفحَة الغلاف! ويَبقى مضمونُ هذه المخطوطة أحجيةً بالنِّسبة للقارئ. أوّلاً إنَّ فعلَ الإبداع والكتابةِ هو معاناة بحدِّ ذاتِه، وثانياً يأتي الإخراجُ المَطبَعِيّ للكتابة.. النّاشرُ وعمليَّة الطّباعة، وهذا هو محورُ روايةِ الدُّوَيهي والمُعاناة الثانية، وتليها المعاناةُ الثالثة وهي النَّشر والتَّسويق. ولم يبسُطْ لنا الدُّوَيهي من الثّالوثِ المأساويِّ للكِتاب غيرَ أقنومِهِ الثاني وهو: عمليَّة الطَّباعَة.. وبجَميع رحلاتِها و”تَغريبَاتِها”. يشدُّنا التشويق في الصَّفحات الأولى، معَ حُضور العُقدَةِ واعتمادِ الحَبكة القصَصيَّة وإيرادِ الإيحاآتِ الرَّمزيَّة، وهذا نادر بالعادة عندَ الدُّوَيهي! ومن نصفِ الرِّواية إلى النِّهاية، تتوالى فصولُ المأساةِ/الملهاة كالسَّيلِ المتدفِّق، من غير أن تعطيَنا فسحةً لالتقاطِ الأنفاس، أو الإمساكِ بحَبلِ نجاة. عندَها يرى القارئُ بوضوح أنَّ بطلَ الرِّواية هو (الكِتاب)! وكلّ الشَّخصيَّات اللاَّعبَة فوقَ خشبةِ مسرحِه، مع أهميَّتِها في وَضع وصِياغةِ وإخراجِ الكتاب، فهي مجرّد خلفيَّةٍ لكربَلائيَّةِ الثَّقافةِ الوَرَقيَّة الرَّاهنة.. إنّها جُلجلَةُ الكِتاب.. أو تكاد أن تكونَ احتضارَ الفِكرِ المَطبوع!! وكأنّي بصاحب (مطر حزيران) في نهايةِ المَطاف.. أرادَ أن يقولَ لكلِّ موهبَةٍ شابَّة.. أنَّ الكاتِب الحقيقيّ سيَكتبُ دائماً، وتبقى الكتابةُ بيدِه كمقلاع داوودَ النَّبيِّ إزاءَ عملاقِ التَحدِّيات والمخاضاتِ التي يعبرُ فيها.. بين جَبَروتِ دُورِ النَّشر، وخِدعةِ الجوائِز الأدَبيَّة، ولعنَةِ البريقِ الإعلاميّ، وكابوس أرقامِ المبيعاتِ في الأسواق.. وهذه كلُّها، مع ألَمِ الكاتب فريد أبو شَعر العميق، لن تحبطَ مسعاه، لأنَّ جمهورَ قرَّائهِ مُختَصرون بكلمةِ (إليَّ) على صفحَةِ الإهداء. إنَّ قصَّة (طُبِعَ في بيروت) بسيطة في رَميَتِها ولكنَّها بعيدَة جدّاً في مراميها: يأتي الشابّ فريد بمخطوطتِه إلى مطبعة كرَم إخوان بعد أن رفضَه ناشرون عديدون.. فينتهيَ مُصحِّحاً للُّغةِ العربيَّة في المطبعَة، ولم يطبعوا له كتابَه. ثمَّ تَضيعُ منه مخطوطتُه ذاتَ يوم سَهواً في المطبعة، ليَعود فيَجدَها عَرَضاً، في نُسخةٍ واحدةٍ مطبوعةٍ بشكلٍ أنيق! ثمَّ يأتي بعد ذلكَ محقِّقون دُوَليُّون للتَّحقيق في ضلوع المَطبعَة في قضيَّة فسادٍ وتزوير عُملةٍ أجنبيَّة، وتوقفُ شرطةُ مكافحة الجرائم الماليَّة الشَّابَّ فريد للاشتباه بهِ، ويَخضع للتَّحقيق ويُتَّهَمُ ويدخلُ السِّجن. ثمَّ يعمدُ أصحابُ المطبعةِ على إحراقِها هرَباً منَ الدُّيون والتَّحقيقات في آنٍ، ويربحون بالمقابل التَّعويضات من التأمين. ويبقى الكاتب الشَابّ المسكين فريد زَمناً في السِّجن، ثمَّ يخرجُ ليتابعَ حياته مع عشيقتِه الفرنسيَّة التي تشبهُ كتابَه الضَّائع. وبعدَ عمليَّةِ إنقاذ موفّقة قامَ بها المعلّم أنيس الحلواني في المطبعَة، أحضَرَ إليه نسخةً أخرى من الكتاب على أمَل نشرِهِ يوماً ما. تلكَ هي البُنية الهندسيَّة التى شادَ عليها جبّور قصَّةَ الطِّباعة ومسيرتَها المُضنيَة. لقد شكَّلت مطبعَة كرَم إخوان النّافذة الذَّكيَّة المُشرفة على محطّاتٍ عديدة في تاريخ لبنان الحديث، السّياسيَّة منها والثقافيَّة. إنَّها روايةُ تراثيَّاتِ الثَّقافة، وسيرةُ التوارث الثقافيّ بينَ الأجيال والعائلات، ورحلةُ الطّباعة من عصرِ النَّهضة إلى الحَربَين العالميَّتَين حتى الحربِ الأهليَّةِ اللبنانيّة، والكيفيَّة التي انتقلَتْ بها الطّباعة التقليديّة بأدواتِها البدائيَّة، من يَدِ الخطّاط إلى يَدِ الزُّخرُفيِّ فالحَرفِ الميكانيكيّ ثمَّ الحَرفِ الإلكترونِيّ. وأمّا قصصُ شخصيَّاتِه الأُخَر وسيَرُهم الذاتيَّة وإنجازاتُهم.. مثل غراميّات عبد الله كرَم، وأيّوب صديق الطّفولة، وحليم أبو شَعَر والد فريد، وتاريخ المعلّم أنيس الحلواني في المهنة وغيرهم.. إن همُ إلاّ تعريشات طفيليَّة على جِسمِ الحَبكة، وأصواتٌ ثانويَّة للنُّوتةِ الرَّئيسيَّة.. وهي تأريخُ سَفَرِ الكتاب من قلبِ الكاتِبِ إلى الكلِمَة المَطبوعَة. ومع أنّ أسلوبَ الدُّوَيهي في الكتابة خالٍ من التَّحليل والتَفلسُفِ والرّأي، فإنَّنا نلمحُ شَخصيَّتَه وميولَه وأذواقَه في غيرِ مكان. وواضح أنَّه عاشقٌ للُّغة العربيَّة وتراثِها الأدبيَّ العريق، وهو أيضاً من هواة الكتبِ والمراجع الكلاسيكيَّة، كسنن الترمزي، والرّوض العاطر في نزهة الخاطر، والمحاسن والأضداد، وأخبار الأعيان في جبل لبنان، وتاج العروس ولسان العرب. وهو أيضاً يُفضِّل خَطَّ الثُلث على سواه من الخطوط. وهو رجُلٌ مُحافظ دينيّاً، لسببِ كثرةِ الكلامِ عن التقاليدِ الدِّينيَّة ودورِ العبادَة. ومع ورُودِ مواقفَ غزليَّةٍ وجنسيَّة في الرِّواية فقد أبقى على المفردات المهذَّبَة منها بعيداً عن السُّوقيَّة، وهي موضة العصر. وقد تكون الكلماتُ الواردة في الصَّفحة 202 على لسان الكاتبِ الشَابّ فريد أبو شَعَر صرخةَ الرِّوايةِ المُدَوِّيَة، وألمَ جبُّور الدُّوَيهي المَرير، وألَمَ جُمهورِ الكِتابةِ الإبداعيَّةِ جميعاً: “إنَّهم موظّفون تافهون، يتعاطونَ بالحَرفِ لكنَّهم ليسوا جديرين بهِ، يعاملونه بالعَدَد، بالوَزن، بالمال، وينتمون زوراً إلى بلدٍ صدَّرَ الأبجديَّةَ إلى العالم ذاتَ يوم! إنَّهم يلوِّثون الكلمَة”.

Comments are disabled.