الجيلُ الجَديد والأدَب
نَظَّمَ دار سائِر المَشرق بالتَّعاونِ معَ جَمعيَّةِ “إصدار ونِقاش”، في عَشيَّةٍ من عَشايا المَهرَجانِ اللُّبنانِيّ للكِتاب في أنطلياس، نَدوَةً ثَقافيَّةً تَحتَ عُنوان (العُبُورُ بحرفةِ الأدَبِ إلى الجيلِ الجَديد). وَتَحدَّثَ في هذِه النَّدوَة: الشّاعر هنري زغيب، الوزير السَّابق رشيد درباس، الرِّوائيَّة مَي منسَّى، والمَسرَحِيّ مَروان نجَّار. وَلافتٌ جدّاً في العنوان مُصطلحُ “العُبُوْر”.. فَناطحَتْ رأسِي فَجأةً! أحداثُ عُبُورِ شَعبِ الرَّبّ من العُبوديَّةِ في مِصر إلى أرضِ المَوعِد، إنَّها ملاحِمُ الخُرُوجِ والعُبُورِ والدُّخولِ إلى كنعان! هيَ رحلةٌ شاقَّةٌ جدّاً، فيما لو واصَلَتْ سَفينةُ الأدَبِ توَغُّلَها في وجدانِ الأجيالِ اللاَّحِقة.. هذا إذا سلَّمنا بأنَّ هناكَ “قَطِيعَةً” حقيقيّة بَينَ الأدَبِ والجيلِ القادم، فنَحتاجَ مَعَها إلى مُعجِزةٍ موسَويَّةٍ أخرَى لتَحقيقِ المُصَالَحَة. يقولُ لنا الشَّبَاب: “الأدَبُ والشِّعرُ موضَةٌ قديمَةٌ لا تَنتَمِي إلى هذا العَصْر!”. وقائِلونَ أيضاً أنَّ الفلسفَة ماتَت، والدِّينُ سيَنتَهي عَمَّا قريب. نِهايةُ الأدَبِ والدِّينِ والفلسَفة هذا الثَّالوثِ العَريق الهَرِم وَشِيكَةٌ، ليُفسِحَ في المَجَالِ أمامَ ثالوثٍ شَابٍّ فتِيٍّ هو الإنتِرنِت والموبايل والميديا. فهَلِ الصُّوْرَةُ قاتِمَة لهذِهِ الدَّرَجة؟! عندَما سألتُ شابَّةً تدرُسُ الماجستير في الأدَبِ العَرَبيّ أثناءَ توقيع (الفنّ الأسوَد): “كَم طالبَ أدَبٍ سَنَة أولى عندَكم في الفَرْع؟” أجابَت بابتِسامَةٍ مُشرقة: “حوالي الخَمسين”، فقلتُ لها: “ليسَ الأمرُ خَطيراً لهذِهِ الدَّرَجَةِ كما يَزعَموْن!”. لكنِّي بالمُقابل لا أريدُ أنْ أكوْنَ وَاهِماً وَغَيْرَ واقِعِيّ، ولا بُدَّ مِنَ الاعترافِ بأنَّ هناكَ تراجُعاً مَيدانيّاً للأدَبِ والفَنِّ والجَمَاليَّات لِصالِحِ العَالمِ الرَّقمِيِّ الزَّاحِفِ إلينا زَحْفةً “هِستيريَّةً وَبَائِيَّة”. ولكي نكونَ مَوضُوعِيِّين، لا بُدَّ لنا من تَقييمٍ يَحسبُ الرِّبحَ والخِسارَة، لكي نتَعمَّقَ بالتّالي في تَعثُّراتِ مَسيرَةِ الأدَبِ بحِكمَةٍ، فنَتَبَصَّرَ خَطوَاتِهِ المُستَقبليَّةَ المُحتَمَلة. وَسَأوجزُ هنا، لِضِيقِ المَجَال، خَسَارَاتِ الأدَبِ أوَّلاً ثمَّ أبْسُطُ بَعْدَها رِهَاناتِ صُمُودِهِ وبَقائِهِ.
أوّلاً الخِسَارَات: 1) إختِلالُ القِيَم ورُجُوحُ كفَّةِ المَاديَّةِ على المِثاليَّة، وقد يكونُ عَصرُنا هذا أكثرَ العُصور إيغالاً في الماديَّة. 2) زَمَنُ الشُّذُوذِ على القواعِد، وكلُّ خُرُوجٍ عنِ المألوفِ هو الاستِثناءُ، والاستِثناءُ ليسَ البتَّة هو الأصل. 3) الظُّرُوفُ المَعِيشيَّةُ القاهِرَة التي تُعِيقُ العَقلَ عَنِ التَلهِّي بالتَّرَفِ الجَمالِيِّ والفَنّ. 4) تَوَالي الحُرُوبِ واستِحَالةُ النَّهْضَةِ الاجتِمَاعيَّة. 5) نَدْرَةُ المُرَبِّينَ الأُمَنَاء وَهيمَنةُ الفسَاد، والفَسَادُ ليسَ مَحْصوراً بالسِّيَاسَةِ والاقتِصَاد، فالنِّظامُ التَّربَويُّ والثَّقافِيّ يَنهشُهُ سَرَطانُ الفسَادِ أيضاً، مِنْ أمِّ الرَّأسِ وحتّى الأخمُصَين! 6) سَيطرَةُ الاتِّصَال البَارِد والثَّقافةُ اتِّصَالٌ حَارٌّ، أي انَّها تَحتاجُ إلى كامِل مَلكاتِ وَحَواسِّ الإنسان، وأمّا الاتِّصالُ الباردُ فقد أنتَجَ الكسَل. 7) إنتِشارُ السَّلفيَّاتِ الظَّلاميَّةِ وَلَّدَ نُفُوراً جزئيّاً مِنَ اللُّغَةِ العَرَبيَّةِ وآدابِها. 8) سُرْعَةُ الحيَاةِ وَعدَمُ وجُودِ وَقتٍ كافٍ للجَماليَّاتِ وَمُتَعِ الفَنّ.
ثانياً الرِّهَانات: 1) القاعِدَةُ هي الأصْلُ والشُّذوذُ طفرَةٌ. والطَّفرَاتُ تُعَوِّقُ مسيرَةَ الأدَبِ ولكِن لا تُمِيتُها! لقد عاشَ الأدَبُ وَنَما وازدَهرَ لآلافِ السِّنين، وفي بيئَاتٍ حَارَبَتْهُ بقوَّةٍ (الجاهليَّة، القرون الوسطى في أوروبّا، عصر الانحِطاط في الشّرق…إلخ)، ولكنَّهُ أبَى أن يَبقى ميِّتاً في قُبورِهِ المُظلِمَة فانتفَضَ مُمَزِّقاً أكفانَه.. وراحَ يَنمو ويَتَطوَّرُ مُرتَدِياً أثوابَ الزَّمَنِ الذي يَعيشُ فيه. فبَعدَ أنْ كانَ في أوروبّا تحتَ رعايَةِ الدِّينِ ناطقاً باسْمِ الكنيسَة، ثارَ في عَصْرِ النَّهضَةِ مُعبِّراً عَن فرادَةِ شَخصيَّتِهِ وأدائِهِ المُتمَيِّز. وبعدَ 400 سنة انحِطاط ثقافِيّ في الشَّرق جَاءَتِ النَّهضَةُ أيضاً بثَورَةٍ أحرَقَتْ هَشيمَ الرَّجْعيَّةِ والطُّغيان. 2) مَهما طالتِ الحُرُوبُ فهُناكَ حَتماً نَهْضَةٌ تليها. ونَهضَةُ الشَّرْقِ بَدَأتْ في نِصفِ القرن التّاسع عشر وانتهَتْ في نصفِ القرنِ الماضي، أي زَمَنِ اشتِعالِ المِنطقة، خصوصاً لبنان. ولكن.. مَنْ قالَ أنَّه لن تحدُثَ نَهضَةٌ ثانية.. وعلى يَدَيِ التّكنولوجيا؟! وحَتماً ستشمُلُ النَّهْضَةُ القادِمَة إصلاحاً اجتماعيّاً وثقافيّاً وَتَربَويّاً. والنَّهْضَةُ قَمِينةٌ بالقَضَاءِ على أشكالِ الفَسَادِ والكسَلِ والنَّظرَةِ السَّلبيَّة نحو اللُّغةِ العَربيَّةِ وآدابِها، وتستقيمُ القيَمُ وَيَهدأُ الذِّهنُ مُتفرِّغاً للتَّمتُّعِ بالأدَب. 3) الأدَبُ تَعبيرٌ جَميلٌ عَن تَجرُبَةٍ إنسَانيَّة، ومَوْتُ الأدَبِ يَعنِي مَوْتَ الإنسَان. إنَّ الإحساسَ الأدَبِيَّ وكذلِكَ الفنِّيَّ والدِّينِيَّ هبَةٌ مِنَ اللهِ راسخَة في وجدانِ البشَريّة، لا تخبُو جذوَتُها طالما هناكَ بشَرٌ أحيَاء. 4) إقبالُ الناشئَةِ على دِرَاسةِ الأدَبِ في الجامِعات. وليسَ صَحِيحاً البتّة أنَّ صفوفَ فرُوعِ الآدابِ خاويَةً من طلاَّبِها! والأرقامُ هِيَ البُرْهان. 5) الأدَبُ الرَّقمِيُّ مُكمِّلٌ للأدَبِ الوَرَقِيّ وليسَ نقيضَه. والنَّهضةُ الثَّقافيَّةُ القادِمَة ستكونُ سَريعَةً على قدِّ سُرعَةِ الحَدَاثة. إنَّ القصيدَةَ الفيسبوكيَّة ليسَتْ مُطوَّلةً حَوليَّةً عَصْمَاء، إنَّها جُمَلٌ قليلةٌ مُتوَهِّجَة مُثقلةٌ بالرُّوحِ التائِقةِ لرَسمِ مشاعِرِها في ابتِكارَاتٍ مُزركشَةٍ مُذهِلة! ويُخطِئُ كثيراً مَنْ تُفوتُهُ قيمَةُ هذِه المَنثوراتِ الوامِضَة على شَاشاتِ حَوَاسيبِنا وموبايلاتِنا. ونَصيحَتِي للذين يَضَعونَ كتُباً في 500 و 700 صفحة أن يَرجعوا إلى 100 صفحة حتى لا يُصبحوا متأخِّرين عَنِ الرَّكب. ناهيكَ عنِ الخَوَاطِر والمَقالاتِ والفلسفةِ والتأمُّلاتِ والأخلاق والأدَبِ الصُّوَريِّ والنَّصِّ الرِّوَائِيّ التَّرَابُطِيّ.. إنَّها بدايةُ عَصْرِ الأدَبِ الرَّقمِيّ الفائِقِ الحَدَاثة كاستِمرارٍ لِرحلَةِ الأدَبِ الوَرَقِيّ. عندَما جاءَتِ السِّينما نَعَا بَعضُهم المَسرَح، وعندَما انتَشَرَ التلفزيون قالوا بنِهَايةِ السِّينما.. ولكنَّ الثَّلاثةَ في نِهَايةِ المطاف مُتفاهِمونَ مُتصالِحون ونحنُ المُتَخاصِمون. كانتِ الكتابَةُ أوّلاً في الذَّاكِرَةِ ثمَّ على الحَجَر فالجُّلود وبَعدَهُ الوَرَق لتَنتهيَ أخيراً في الحَاسُوب والنِّت. وفي أورُوبّا مثلاً لم تُؤَثِّرِ الحَداثةُ إلاّ قليلاً على الكتاب.. في الحَافِلاتِ والقِطارات هناكَ مَنْ يَقرأُ روايةً على الآيباد، وهناكَ مَن يَقرأُ أيضاً في كتابٍ وَرَقِيّ، ومن كلِّ الأعمار. والجَديدُ المُدهِشُ في أميركا هو المَجموعاتُ الثّقافيَّةُ على الواتساب لإنتاجِ وتَسويقِ وتَبَادُل الكِتاباتِ الأدَبيَّة الجَديدة، ولا تناقُضَ البتَّة بَينَ عالمِ الوَرَقِ والشَّاشَةِ الرَّقميَّة 6) وَعْيُ الكثِير مِنَ المُؤَسَّساتِ التَّربويَّة والاجتِماعيَّة خُطورَةَ ابتِعادِ الأجيالِ الطّالِعَة عنِ الكِتابِ والأدَب، فيُسْرِعُ كلٌّ على طريقتِهِ في خَلقِ الفُسْحاتِ الضَّرُوريَّة للتَدَرُّبِ على الثَّقافةِ، وشَحْذِ العَقلِ على تَذَوُّقِ الفَنِّ الأدَبيّ. الأدَبُ ليسَ داينوصوراً ليَنقرِضَ.. إنَّهُ ظِلُّ الحَياة.. وحَيثُ هناكَ حَيَاة هناكَ أدَبٌ حَيّ.