مقال
العنوان: (هجرَةُ الآلهةِ والمدائِن المَجنونة)، الرِّوائِيّ: ناتالي الخوري غريب، النّاشر: دار سائِر المشرق. هي العمَلُ الرِّوائيُّ الثّاني بعد (حينَ تعشَقُ العقول)، فضلاً عن دراساتٍ ثلاثٍ في الأدَبِ الصُّوفيِّ والفلسَفة، وهذا حتماً يُكسِي الفنَّ الحكائِيَّ عندَ ناتالي ثوباً تأمُّليّاً وجوديّاً.. قلِقاً! لقد أثارَ العنوانُ أسئِلةً فلسفيّةً غيرَ مأمونةِ الأجوبة: أتُرَى هناكَ إلهٌ واحِدٌ أو آلهةٌ عديدون؟! ومَنِ الذي هجَرَ الآخرَ الإنسانُ أم الإله؟! ولماذا هذه الهجرَةُ والقطيعَة بينَ الإنسان وإلهِهِ؟! لقد أمطرَتِ الكاتبَةُ قارئَها منذ الصَّفحَةِ الأولى وابلاً منَ الاستفهاماتِ الصَّعبَة، تُختَصَرُ بسؤَالٍ قديمٍ جديدٍ هو: لماذا يتألَّمُ الإنسانُ الصَّالِح؟ ومنذ البدايَة، وبجُرأةٍ غريبَةٍ، شرَّعَتْ رايةَ الثَّورَة والعصيان: “سأُعلنُ غَضَبي عليكَ يا الله”. وبهذِه الصَّرخةِ المُرَّة رَسمَتْ لنا النِّهايَةَ التراجيديَّةَ الميلودراميَّة للرِّوايَة.. ليسَ هناكَ جَوَابٌ لهذا السُّؤَال! روايةُ ناتالي تأريخٌ باكٍ لما حدَثَ ويحدُثُ في شَرقِنا العرَبيِّ الجَريح منذ 2010، بدءاً بالمأساةِ السُّوريَّةِ التي فجَّرَتِ الرِّوايَةَ نَهراً صَاخباً، زادَ في هَدير دَفَقاتِهِ أنهارٌ ترفدُهُ عندَ كلِّ عَطفةٍ من عَطفاتِهِ الدَّاميَة، فازدادَ جنوناً: موتُ الزَّوجَةِ في تفجيرٍ في مدينةِ حمص، وتلاهُ فقدانُ العائِلةِ بكاملِها في تفجيرٍ آخر، قيامَةُ آلهةِ الجَاهليَّةِ الظّلاميُّون الجُدُد، أزَمةُ النَّازحين السُّوريِّين، الحُبُّ الوَئيدُ في بيروت، وَبَاءُ الإيبولا في غربِ إفريقيا، الدوَّامَةُ الصُّوفيَّة في العراق، تفريغُ الشَّرْقِ من مَسيحيِّيه، المَذبَحَةُ الإزيديَّة، دَورُ اليَسَار الخائِبِ في نَهضَةِ الشَّرق، ثمَّ اللُّعبَةُ الإعلاميَّةُ الخبيثَة في الأزَماتِ الكُبرَى، وبَعدَها خِيَانةُ الصَّديقِ القاتِلَة، وأخيراً جُموحاتُ الحَياةِ وَعَبثيَّةُ جَوْلاتِها السَّكرَى، وفي نِهايةِ المَطاف.. لماذا يَختفِي اللهُ في مَصَائِبِ البشَريَّةِ الكبرَى؟! وهذِهِ المِلفَّاتُ كلُّها، شَكَلتْها ناتالي كدَعَاوَى في ظَرْفٍ واحِدٍ.. هو الشَّيخ سَامِح.. الشَّخصيَّةُ البَطل في الرِّوايَة. ثمَّ راحَتْ تبحَثُ عن إلهٍ يُصغِي لشَكواها، عن وُجُودٍ لم يُلوِّثهُ مَورُوثٌ مَوبُوء، عن كونٍ يتَّسِعُ لصُرَاخِها وأحلامِها الصَّغيرَة، عن كونٍ فيهِ المَحبَّةُ وَحدَها هي الإلهُ والهُويَّةُ والجُذورُ والانتِماء. أكانَ سَامِح حَقيقَةً زَمَنيَّة أو من بَناتِ المُخيِّلة.. فهو من غيرِ شَكّ نثرَةٌ منَ الانهيارِ السُّوريِّ المُستمِرِّ إلى أجَلٍ غيرِ مُسَمَّى، وإسقاطٌ لِلذَّاتِ الحَانيَةِ على ألَمِ الآخرين. ما يَحدُثُ في هذا الشَّرْقِ يَخمُشُ وجدانَ الإنسَانِ العادِيِّ البَسيط.. فكيفَ بالرُّوحِ الوثَّابَةِ العاشقة لِلحُبِّ والخَيرِ والفَنِّ والفلسَفة؟! وربَّما أرادَتِ الكاتبَةُ أن ترويَ لنا مآسِيَ البَشَريَّةِ كلَّها في كتابٍ واحِد، لكي يكونَ شاهِداً على المَرْحَلة، شاهداً على عَصرِهِ! لكي يكونَ قرْصاً مُدمَجاً حاوياً صوَرَ وألبُوماتِ الدّرَاماتِ النّاشبَة منذُ سَنَواتٍ في بلادِنا. ولكنَّها في محَطَّتَين وُفِّقَتْ ناتالي، برأيي، في الإضَاءَةِ عليهِما: أولاهُما المأساةُ الإزيديَّة وخلفيَّتُها التَّاريخيَّةُ والعقائِديَّة، تلكَ الطّائِفة التي ترفدُها وَمَضَاتٌ منْ دِيَاناتِ الأرْضِ كلِّها، فكانَ تَصالُحُها معَ الجَميعِ رَصَاصَةَ إعدامِها! لقدِ انبَثقَتْ هذِه الدِّيانةُ منَ العدَم، من غفوَةِ الوَعيِ الثّقافِيِّ وغَيبوبَةِ التَّدبيرِ الدِّينيِّ المَسؤُول. إذ كيفَ عاشَتْ هذِه الطَّائفَة بَينَ ظهرانِيِّ المَسيحيَّةِ واليَهوديَّةِ والإسلام ناهلةً منَ الثَّلاثةِ وهي غَيرُ الثَّلاثةِ بالمُطلَق؟! وقد تكونُ الحَملةُ الدَّاعِشيَّةُ عليها رسالةً منَ “الآلِهَة المُهاجِرَة” إلى قادَةِ الدِّينِ في الأرضِ.. أنَّ الإزيدِيَّةَ مَسؤُوليَّةٌ مَسيحيَّةٌ أوَّلاً. والمحَطَّةُ الثّانيَة هيَ توظيفُ ظرُوفِ الحَرْبِ الأهليَّةِ لتصفيَةِ الحِسَاباتِ الشَّخصيَّةِ بَينَ أبناءِ البلَدِ الواحِد.. والمَدينةِ الواحِدَة.. وأيضاً الحَيِّ الوَاحِد. وهذِه قِمَّةُ الفاجِعَة. والحِسَاباتُ الشَّخصيَّةُ أحياناً.. ويا للعَار! تنافُس بينَ نَدَّينِ على حُبِّ امرأةٍ واحِدَة! سامِح الشَّيخ هو قدِّيسُ الرِّوايَة.. وجابر شَيطانُها. لقد أحَبَّا في شَبَابِهما الفاتنَة بَسمَه، وفازَ بها سامِح في البدايَة. وفي ذُرْوَةِ الرِّوايَة تهُزُّنا المُفاجَأة! أنَّ جابر هذا هو السَّبَبُ الرَّئِيسِيُّ لبلايا سامح، وهو مُنفِّذُ التَّفجير الذي أودَى بزَوْجتِهِ بَسمَه. ثمَّ تَنتَهي بَعدَها تِلكَ التراجيديا الشِّكسبيريَّة أنِ اكتَشَفَ سامِح، فِي خِضَمِّ رُكامَاتِ سُوريا، أنَّه شارَكَ هوَ الآخر في أحداثٍ داميَةٍ مِن حَيثُ لا يَدري، عَن طريقِ استِغلال جابر له قبلَ انكِشَافِ لُغزِ شُرُور هذا الأخير! فدَخلَ هذا الشَّيخُ الحَزين في متاهَةٍ شِبهِ جُنونيَّةٍ.. لتلِجَ حكايتُهُ في ضَبَابيَّةٍ ذاتِ احتمالاتٍ شتَّى، بُعَيدَ حادثِ سيَّارَةٍ غامض. فتَنَاثرَتْ في تِلكَ الحادثَةِ حَيَاتُهُ.. كما تناثرَت أوراقُ مَخطوطِهِ الذي كانَ قد شرَعَ في تَدوينِهِ ليَقولَ فيه.. أنَّ الحياةَ مَسرَحيَّةٌ كبيرَةٌ.. واللاَّعبونَ صِغار.. والمُصَفِّقونَ سَكرَى.. وأمَّا البَطلُ الرَّئِيسِيُّ في هذِه المَسرَحيَّةِ المأسَاة.. فهو العَبَث.
في 2/4/2017