مقال
أيَّ حُلَّةٍ من الحُلل تعطَّفتِ السّياسةُ في تاريخِها الطّويل وإلى يومِنا هذا؟ هل صُنِّفتْ علماً، أو صُنِّفت فلسَفةً؟ أهي أداءٌ وممارسة، أم هي خِدعَة؟ أتُراها وَظيفة، أم انَّها فنٌّ وإبداع؟ وكما نسمعُ كثيراً في أيّامنا هذه عن فنِّ المُمكن. لقد اشتُقَّتْ كلمةُ (سياسة) من فعل (ساسَ) بحسَبِ قاموسِ العربيّة، والمعنى: قام بالأمر، تدبَّرَه. فينبَثِقُ بالتالي المَعنى الذي يُفيد: القيامَ بأمر ما، إتمام وإنجاز المَهامّ، وكلّ ما يخصُّ شؤُونَ الناس. وبمَعانٍ أخرى رديفةٍ هي الحُكمُ، موقعُ السُّلطة، إدارَةُ حاجاتِ العامّة. في الكلمةِ اللاتينية يشملُ المعنى أيضاً: تدبيرَ شؤون الدَّولة. والسّياسةُ، من حيث شكلِها، ديناميَّةٌ ذاتُ اتّجاهين بين الحاكم والمَحكوم، وهي بالتّالي بَحرُ الدَّولةِ بكاملِه، وكلُّ ما يَرفدُهُ من مسؤوليّاتٍ وصلاحيّاتٍ ومصالح وتدبيرات ومَهامّ متنوِّعة.
إنَّ رُبّانَ السّفينةِ سائِسُها. وقائد الجيش يسير بجيشِه إلى النصر. الوزيرُ يدبِّرُ وزارته لتؤدّي مهامَّها بشكل أفضل، وأيضاً ربُّ البيت هو المُديرُ لحاجات أسرته. السّياسة ضرورة وحاجة. ولكنّها في العَصر الحديث، “ممسوخٌ مُهجَّن” و “سِحرٌ أسود” صنَّعَته أيدي السَّحَرةِ السّاسَةِ في “الغرَفِ المُعتِمَة”! فمِن طرائِفِ السِّياسَة أنَّ الصِّفاتِ الشرِّيرة أصبَحَت عباآتٍ فرّيسيَّةً بيضاءَ ساترة للُّعبَةِ السّياسيَّةِ الخبيئَة، يرفلُ بها أبرزُ قادةِ هذا العصر: ثعلبُ الصّحراء، أسدُ الصّحراء، النَّمِر كليمنصو، النَّمر كميل شمعون… وغيرهم. هذا يعود بنا إلى زَمنٍ بدائِيٍّ موغلٍ في الرّعب.. القبليّة الوحشيّة! مجتمعُ الهنودِ الحمر في شماليّ أميركا، مثلاً، حيث ارتبطت أسماءُ الحيواناتِ بأسماءِ البشر: الثعلب، الذئب، النّسر، الحصان، الضّبع، التمساح، الثعبان. وفي الحضاراتِ القديمةِ شُكِلَتْ هذِه بأسماءِ الآلهة! وهذه التسمياتُ لكي تُجسِّدَ ميزة الحيوان في مزاج الشّخص المُسمّى. وهذا بدَوره، يقود إلى استنتاج مخيف هو الآخر، أنّ صراعاتِ السِّياسَة في حقيقتِها، إن هي إلاّ صراعات الأمزجة/الغرائز الحيوانيّة في الطَّبيعَةِ الآدميَّة. لقد أطلق ابن آدم القوانين والمواثيق في بريّةِ تاريخه، حَظيّاتٍ هاربة، أو طرائدَ يتصيّدها ساعة يشاء. وفي رحلة الصّراعاتِ الطويلة يغدو القانونُ زائراً، بل عائقاً ثقيلاً! فيمطُّ السّياسيُّ آياتِهِ طويلاً لتصبحَ سلاحاً مهيّأً للمعركةِ المقبلة. لقد حلَّتِ الحربُ الطّاحنة بين الأمَم الشّرائعَ من صلاحيّاتها، وأطلقتِ اللُّعباتِ الخبيثة المتنمِّرَةَ من أقفاصِها.
السِّلاحُ الأخطرُ هو الإنسان نفسه! الإنسانُ يستخدم الإنسانَ أداةً.. وغاية. هي الحرب بالوكالة. تماماً كما يستعمل الصيّاد الدّيدان لاصطياد السّمك. إنَّ “الكبار”، وهذا شأنُهم أبداً، يجمعونَ عيدانَ التناقضاتِ بينَ الأمم والشُّعوب، وينفخون فيها نارَ الخَديْعَةِ، ويطبخون فوقها صَيدَ مصالِحِهم ومآربِهم. والعقيدَةُ الحاقدة أيضاً أشدُّ فتكاً من القنابل والصّواريخ. والباهراتُ التكنولوجيّة أسلحةٌ ذكيَّةٌ في المَعمَعةِ هي الأخرى. الحربُ نفسُها أيضاً حلقة من حلقاتِ الصِّراعات المُزمِنة. وتِلكَ الصّفقاتُ الخبيثة التي تشبهُ نصّاً مسرحيّاً.. كاتبُه هو المنتجُ والمخرجُ والممثلُ في آنٍ معاً.. إنّها تراجيديا الصّراع الموقّعة على رقّاصٍ يفصلُ بدقّةٍ بينَ الرّبح والخسارة، ولا تَعبأ للفاتورةِ المُخيفةِ المسروقة من حياة البؤسِ البَشَريّ. الحربُ العالميّة الثانية كانت ثمنَ مصالح الأمّةِ والمَدى الحيويّ الألمانيّ، والاستعمارُ الغربيّ للشّرق العربيّ كان ثمنَ التحرُّر من نير العثمانيّ، ثمَّ هجرَةُ المسيحيّين من الشّرق إيضاً هيَ ثمنُ الحرب على سِحرٍ تمرَّدَ على ساحِره، وما عاصفةُ الإثنيّاتِ الظلاميَّة إلاَّ ثمَن التحرُّرِ من ظلم الديكتاتوريّة. ويأتي الإعلامُ كشُحناتٍ كهربائيّةٍ تعطّل الأنظمة، وتلعبُ بالمعدّلات والأرقام، إنّه “يُفرمِتُ” الدّماغَ ويدخلُ فيه الدّاتا الجديدة التي يريد. إنّه التنويم المغناطيسيّ الذي يُخدّر في الإنسان سياجاتِه العاقلة. والغريزةُ أداة مرعبَة في هذه اللُّعبَةِ الكونيّة: غريزة القوميّة أو الدّين أو اللغة والتاريخ، غريزة الحياة الكريمة! وهكذا راحَ السَّاسَةُ يؤدُّون أدواراً فوقَ خشبة السّيناريوهات المعلَّبَة، فإذا نشّزَ واحِدُهم يوماً في الجّوقة، حَدَجَه المايسترو بعَبسَةٍ تُرجعُه إلى النّوتةِ الصَّحيحة، أو لكزَ إصبعُ الأخلاقِ ضميرَ واحدِهم مرَّة، أصابته عصا اللُّعبَةِ الأكبر مِن فوقُ، بضربةٍ قويّةٍ موجعة تردُّه إلى “الصّراط المستقيم”.
وتحضرُني الآن مسرحيّة جان بول سارتر (الدوّامة)، حيث يتقدَّمُ في الفصل الأخير من المسرحيّة، رئيسُ البلاد الذي وصلَ إلى الحكم بثورةٍ ناجحة، ولم يستطع تنفيذَ مشروعِهِ، فأعلنَ أنَّ هناك سياسةً واحدة لا غير. وما هي هذه السِّياسَة الواحدة؟ إنّها اللُّعبَةُ الأمميَّة! لقد قدَّمَ وعوداً عظيمة في الثورة، وعندما أصبحَ حاكِماً عَجِزَ عَنْ أن يُنفِّذ! لقد علقتِ الوعودُ والرُّؤى والأحلام في شبَكةِ البازاراتِ والأجنداتِ العنكبوتيَّةِ العالميَّة.