مقال
يقولُ الفَيلسوفُ الإغريقيّ أفلاطون: “وَحدَهم الذين ماتوا همُ الذينَ شَهِدوا نِهايةَ الحَرب!”. وإذا أسقَطنا هذه المَقولَةَ على حَربِ سوريا يكونُ معناها أنَّ لا نهايَةَ أبداً لهذا الصِّراعِ العَبَثيِّ في البَلَدِ الشَّقيق، والأَحياءُ باقونَ في حالةِ حَرْبٍ حتى ساعةِ مَوتِهم! وحاضَرَ ذاتَ يَوم اللاّهوتِيُّ التقدُّميُّ البَرَازيليّ ليوناردو بوفّ فقال: “مِن أصل 3400 سنة من تاريخ البَشريَّة هناكَ 3166 سنة منَ الحُروب، وأمّا الـ 234 سنة المُتبقِّية فلم تكن بالتأكيد أعوامَ سلامٍ.. إنَّها أعوامُ التَّحضيراتِ للحَرب”، وأضافَ أنَّ في نهايةِ حُرُوبِ البَشَريَّة هذه المَرَّة حتماً.. لن يكونَ هناكَ سَفينةُ إنقاذٍ نُوحِيَّة. وفي مُذكّراتِهِ كتبَ ديغول: ” إنَّ الحَرْبَ يجبُ أن تستمِرّ، والدُّنيا واسِعَة، وكلٌّ بمَقدورِهِ أن يَجدَ له حَيِّزاً فيها، وإذا كُتِبَتْ ليَ الحياة فسوفَ أحاربُ وأحاربُ في أيِّ مكانٍ أكونُ فيه، حتى هزيمَةِ العَدُوّ”. وقالَ ديغول أيضاً كلاماً فيه توصيفٌ نبُوئِيٌّ لحَقيقةِ خلفيَّةِ حُرُوبِ العالمِ كلِّها: “لا تفتِّشوا عَن أسبابِ الحَرْبِ في بَرَاميلِ البارود، بل في إهراءَاتِ القمح”، وفي مَعنىً رَدِيفٍ أنَّ الحُرُوبَ والصِّراعات ضَرُورَةٌ إقتصاديَّة. منذُ سنواتٍ سِتٍّ وَسُوريا تخرُجُ من خَندَق لتدخلَ في نَفَق، ومن وَحلةٍ إلى رمالٍ مُتحَرِّكة، ومِن دوَّامةٍ إلى إعصَار.. وسؤَالٌ واحِدٌ أحَد يُخدِّرُ عُقولَنا.. لماذا لا تنتهي هذِه الحَرب؟! وبالتّأكيد لن تَنتهيَ على أيدِي السُّوريِّين أبَداً. وَغَريبٌ جدّاً أنَّ أعوامَ الحُرُوبِ الكونيَّةِ الكبرى قليلة، فيما الحُرُوبُ الإقليميَّةُ الصُّغرى تُعمِّرُ طويلاً.. وطويلاً جدّاً. ولا يَخفى على أحَد أنَّ الحُرُوبَ الإقليميَّة “سَاحَاتٌ باردَة” لِصِّراعاتِ الكِبار. ولقد نَظرَ قادةُ الغَرْب، بُعَيدَ نِهايةِ الحَربِ العالميَّة الثانية، إلى الشَّرْقِ الأوسَط كما ينظرُ المِعماريُّ في عَقارٍ منَ الأرض، يريدُ أن يُشيِّدَ فوقَه تُحفتَه العَتيدَة، فرَأوا في عَدَسَةِ الأطمَاعِ التوَسُّعيَّةِ أنَّ المَعركة المُقبلَة حتماً أوسَطيَّة. ويَقودُنا الاستِنتاجُ، في مَقولةِ أنَّ الحَرْبَ ضَرُورةٌ ومَصلَحَة اقتِصَاديَّة، إلى أنَّ بَقاءَ العَبَثِ الدِّامِي المُدَمِّر في سوريا ضَرُورَةٌ إقتصاديَّة عَالميَّة. ولأنَّ أطرافَ النِّزاعِ كثيرَة، والمَصالِحَ مُتشابكة ومُعقَّدَة، والغايات لمْ تتَحقَّقْ بَعد، تصبِحُ عندئذٍ حالةُ الحَربِ تَطبيعاً شَرعيّاً مَقبولاً منَ الجَميع، وإلى أجَلٍ غيرِ مُسمَّى. وهذا التَّشريعُ الخَبيثُ سيَكونُ بالتّأكيد تَعويذةَ سوريا ولعنتَها. وإذا كانتِ الحَربُ مَدىً حَيويّاً لكُلِّ جُمُوحٍ شَرِهٍ.. كائناً مَن كان! في الشَّرقِ أو الغرب في الشِّمالِ أو الجَنوب، تبقَى الأخلاقُ فلسَفةَ وَحُجَّةَ الضَّعيفِ في منطِقِ القُوَّةِ السِّيَاسَيَّةِ العَالمِيَّة. ولكي تنتهيَ المأسَاة لا بُدَّ من تَوَافرِ عامِلَين لا ثالثَ لهُما: الإرَادَةُ والقُدرَة. مِن حَيثُ القُدْرَة، كلُّ الحُرُوبِ وَقَّعَ الفِعلُ السِّياسِيُّ تذييلاتِها، يَكفي إيقافُ إمدادِ الحَربِ بزَوَّادَتِها فتنتَهيَ للحَال. وأمّا بالنِّسبَةِ لِلإرَادَة.. فهُنا بَيتُ القَصِيد! إنَّ الإرادَةَ الدُّوَليَّة لم توقِفْ أيَّ حَربٍ منذ تأسيسِ الأمَمِ المُتَّحِدَة حتى ساعَتِها، ويبدو أنَّ لا مَكانَ للإرادَةِ الخَيِّرَة في زَحْمَةِ الشَّرَاهاتِ والتَذَاؤُبَاتِ العُظمَى. سوريا إرادَةُ حَرْبٍ دائِمَة! إنَّها تُوفِّرُ لرُوسِيَّا مَصالِحَ في الاستراتيجيا والجيوسِيَّاسيِّ والاستثمارِ في النِّفطِ والطَّاقة وتجارَةِ السِّلاح والتَّدريب الحَربيّ، وفي مسألةِ الكيانِ الكُرديّ والخطَرِ الأصُولِيّ.. وفوقَ هذا وقوفُها في وَجهِ جَبَرُوتِ أميرِكا. وسوريا أيضاً مَصلَحَةٌ أميركيَّة لأنَّها دَولةٌ مارقَة، وَصَديقةٌ لإيران، وَظهيرٌ وجُودِيٌّ لحِزبِ الله، وامتِدادٌ رُوسِيّ أوسَطِيّ، وأداةٌ لِنشُوءِ ديمقراطيَّاتٍ عَرْجاءَ في المنطقَة، وخَطَرٌ لِصعودِ الإسلامِ السِّياسِيّ، ومؤثِّرٌ رئِيسيٌّ في المِلفِّ الكُردِيَّ الشّائِك. وهدَفُ النَّهجِ الأميركِيّ استخدامُ المُعارَضاتِ السُّوريَّة، آنيَّاً لأجنداتِها، والأسَدَ في المُستقبَل طائِراً في فَلَكِها.. لِعَدَمِ توفُّرِ البَديل. والضَّربَةُ الأخيرَةُ لن تنُهيَ المَأساة/المَلهاة، وليسَت يقظةَ الضَّميرِ الغَربيّ، وإنَّما هيَ قلبَةٌ من قلباتِ اللُّعبةِ الخبيثَةِ الرَّامية لترويضِ الأسَد وإخراجِهِ منَ المَحورِ المُقاوِم، كونَه الحَلقةَ الأضعَف، بتَكتيكاتِ العَصَا والجَزرَة، وحتماً هناكَ ضَوءٌ أخضر رُوسِيّ! وترامب يَعرفُ جيِّداً أرقامَ الأسَد في الحِسَاباتِ الرُّوسِيَّة. وسوريا أيضاً مصلَحَةٌ إسرائيليَّة لأنَّ الحَربَ إرهاقٌ لقوَّةِ سُوريا العَسكريَّة وجيوشِ المِنطقَة، وإغراقٌ لحِزبِ الله، وإيقادٌ في نارِ المذهبيَّة، وتجارَةٌ للعِتادِ الحَربيّ ولِلخدمَةِ اللُّوجستيَّة الطبيَّة، وَطَمْرٌ لقَضيَّةِ فلسطينَ تَحتَ رُكامِ الدَّمَارِ الشَّامِل وَغُبارِ الظّلاميِّين الجُدُد. وسوريا مصلَحَةٌ تركيَّة من جِهةِ الأصوليَّةِ والقضيَّةِ الكُرْديَّة وأمْنِ الحدود واليقظَةِ القوميَّةِ العُثمانيَّة والحِسَاباتِ الدَّاخليَّةِ الضَيِّقة، واللَّعِبِ على الحَبلَين: روسيا وأميركا، أو إيران وإسرائيل. وسوريا مصلَحَةٌ خَليجيَّةٌ من جهَةِ الخَوفِ منَ تمَدُّدِ العِملاقِ الإيرانيِّ في الشَّرقِ الأوسَط، والكربَلائِيَّةِ النَّازفة منذُ قُرون. وهيَ أيضاً مصلَحَة إيرانيَّة لأنَّ إيران نَسْرٌ يَتَعاظمُ جَناحاهُ في المِنطقة، وسوريا وَحِزبُ الله نافذَتانِ على البَحر، وفوقَ هذا يَعنيان الحُضورَ والكابوسَ الإيرانِيَّ على الحُدودِ الإسرائيليَّة. وسوريا كذلكَ مصلَحَةٌ أورُوبيَّة شبيهَة بمَصلَحَةِ الضَّبعِ والثَّعلَبِ في الفريسَةِ التي اصْطادَها النَّمِرُ وأكَلَ نِصفَها. وهي تتأرجَحُ بَينَ استِرضَاءِ أميركا من جِهَةٍ واستغلالِ ضَعفِ نِظامِ الأسَد لِشَدِّهِ إليها. وعندَما يَفتحُ الذِّئبُ شَدقَيه ليفترسَ الخَرُوف، لا يسألُ الخَروفُ عَن حقٍّ أو قانونٍ شَرَّعَ للذِّئبِ أنْ يأكلَهُ، لأنَّ “تشريعَ الضَّرُورَة” يَفرضُ أنَّ القويَّ يَأكلُ والضَّعيفَ يُؤْكل.
في 7/4/2017