وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

حِزبُ الله بين مدِّ الانتصارات وجَزر الإخفاقات

حِزبُ الله بين مدِّ الانتصارات وجَزر الإخفاقات

  وَصفَت إسرائيل حِزبَ الله بأنّه حرَكة براغماتيَّة تستخدم القوّة بحكمة، وأميركا بدأت تنظر إليه بعد حربِ سوريا بأنّه (فائض قوَّة)، ومع أنَّ  حِزبَ الله لا يمارس إرهاباً عبَثيّاً دمويّاً شبيهاً بممارسات القاعدة وبَناتِها، فقد أدرَجَته الإرادة الغربيَّة على رأس اللاّئحة الشّيطانيَّة. وممّا لا شكّ فيه أنّ حزبَ الله هو الحَرَكة الجهاديَّة الأكثر سطوعاً في العقود الثلاثة الأخيرة، إن في الميدانِ الإقليميّ أو في الرَّدهاتِ السّياسيَّة الدُوَليَّة. أقول (حَرَكة جهاديَّة) وليس (حِزْباً سياسيّاً) ولا (مُقاوَمَة)، لأنّ حزبَ الله مُنبثقٌ عقائديّاً من الفكر الجهاديِّ القرآنيّ: “فإنَّ حِزْبَ اللهِ همُ الغالبون” سورة المائدة 56، تماماً كما حَرَكة فتح: “إنّا فتحنا لكَ فَتحاً مَبيناً” سورة الفَتح 1. واضحٌ تاريخيّاً أنَّ حَرَكة أمَل وحِزبَ الله فرعان لأرُومَةٍ سياسيّةٍ وفِقهيَّة واحِدَة هي الثورة الإسلاميَّة في إيران. ثمَّ غاصَ كلٌّ من الحَرَكةِ والحِزْب في الثمانينات في وَحلةِ الصِّراعاتِ الميليشيويّة اللبنانيّة. ولكنَّ الحِزبَ تمكَّنَ أخيراً من بَسط سلطانِه في الجنوبِ اللبناني، فأصبحَ هو رأساً والحَرَكة تابعاً. وبعدَ الحربِ الأهليَّةِ نفضَ حِزبُ الله عنه غبارَ العبَثيَّاتِ الدّاخليَّة، وصوّبَ بندقيَّتَه نحوَ إسرائيل في عمليّاتٍ جهاديَّةٍ ناجحة.. كحَربِ الأيّام السَّبعة 1993 وعناقيد الغضب 1996 والتي توَّجَها في نهاية المَطاف بكَسر شوكةِ جَبَروتِ الآلةِ الحربيّة الإسرائيليّة، فانسحَبَت من الجنوب عام 2000. وأيّ نظرة نقديَّة موضوعيَّة لحِزْبِ الله وأدائه ستُسقط حتماً من حسابها مرحلة الثمانينات، لأنَّ السِّلاحَ الطّائفيَّ آنذاك، ودون أن نستثنيَ أحداً، أخطأَ قليلاً.. وأخطأَ كثيراً. ونستطيع أن نقول، والضَّمير مستريح، أنَّ حزبَ الله في الثمانينات كان تنظيماً ميليشيويّاً كسائر التّنظيمات على السّاحة اللبنانيَّة. وجاءَت المرحلة الثانية من تاريخ الحِزْب 1990-2006 وعنوانُها (المُقاومَة)، وهي أوْجُ حِزبِ الله. ومع أنَّ نصفَ اللبنانيّين غيرُ مقتنع بقدسيّة بندقيَّتِه، فقد باركوا وقوفَه في وجهِ غطرَسةِ إسرائيل، وأدركوا أنّ العقيدة الجهاديَّة هي سرُّ انتصار تمّوز 2006. وفي نظرِ حِزْبِ الله أنَّ الانتصارَ أعظمُ منَ الثَّمَن الباهظِ المدفوع من حِسابِ الدَّاخل اللبنانيّ! وكانَ الثالوثُ الذي يراهُ الكثيرون غيرَ مقدَّسٍ الشِّعارَ المُلهمَ لهذه المرحلة: الجيش، الشَّعب، المقاومَة. هذا ويتجاهلُ الكثيرون أيضاً أنَّ في جَوهر عقيدةِ الجَيش والدُّستور إسرائيلَ عدُوٌّ ومقاومتَهُ شرعيَّة. لقد كانَ حِزْبُ الله مُقاوماً ذكيّاً ضدَّ إسرائيل، وتمّوز 2006 إنتِصَارُ “إلهيٌّ” مَشكور. ثمَّ جاءَ دورُ المرحلة الثالثة وهي مأزق الحِزْبِ بينَ العَمَل السِّياسيّ في الحكومَةِ والمُقاوَمَة. وهذه عَطفةٌ خطيرَة للحِزْب.. لأنَّ السِّياسَةَ والمُقاوَمَة متوازيان لا يلتقيانِ إلاَّ بإذنِهِ تعالى. السِّياسَةُ بيَدٍ والبُندقيَّة بيَد! ولكن في وَجْهِ مَنْ؟! العدُوُّ انسَحَبَ من الأرض!! وهنا غرقَ الحِزْبُ في دَوَّامةِ ابتكار شِعاراتٍ وعناوينَ تُضفي على بُندقيَّتِهِ الصِّفةَ الشّرعيَّة، مثل: “طالما إسرائيلُ على قيدِ الحَياة وفلسطينُ مُشتَّتة فالبُندقيَّة باقيَة”. ولم ينقذه من أزَمَةِ (السِّياسَة/السِّلاح) غيرُ الإنفِجار السُّوري! وهنا انطلقت المرحلةُ الرَّابعة والأخيرة، والتي جادلَ فيها الحِزْبُ بقوَّة، أنَّ بقاءَ السِّلاح بيَدِهِ ضَرُورَةٌ وحِكمَة. وحاربَ الحِزْبُ أيضاً الإرهابَ التكفيريَّ على الحُدود بشجاعةٍ وَحَذر، والتنسيقُ بينَه وبين الجيش أمنيّاً ومُخابَرَاتيّاً مثالِيٌّ، فترَصَّدا معاً الخلايا النّائمَة والعُمَلاءَ والمؤامرات. هذا والمنظومة الأمنيَّة للحِزْب لا زالت قلعةً عَصِيَّة على إسرائيل. ويتمتَّع عقلُ حِزْبِ الله ببُعد النّظر والمسؤوليَّة والإلتزام، وأداؤُه السِّياسِيّ مرنٌ لا يقفُ عائقاً أمام أيِّ مشروع نهضَويّ. ولكن بعد 7 أيّار بدأتِ الصُّورةُ تشحُبُ.. وبدأ زَمَنُ الإخفاقات! لقد أخفقَ الحِزْبُ في إقناع جَميع اللبنانيِّين بضَرُورة بُندقيَّتِه بعدَ تحرير الجنوب، وأداؤُه نحوَ الشَّريكِ في الوَطن ومُعارضيه كانَ مُتعالياً مُكابراً بامتياز. 7 أيّار ليسَ دفاعاً عن لبنان بل دفاع عن النّفس!! هذا إذا كان القراران الشَّهيران لحكومةِ السَّنيورة آنذاك شكَّلا تهديداً وُجوديّاً حَقيقيّاً للحِزب. ناهيكَ عن الدِّماء والدَّمارِ النَّفسِيّ المُتراكم بعدَ هذه المَعرَكة الخاطفة. وقتالُ حِزْبِ الله في سوريا ليسَ دفاعاً عن لبنان في العُمق.. بل دفاع عن النّفس أيضاً! لأنّه عمليَّة إنقاذ للظَّهير الوُجودِيِّ والاستراتيجيّ في دمشق. ولكنَّ تداعياتِ “الهولوكوست السُّوريّ” قذفتِ الإرهابَ إلى لبنان فحاربَهُ الحِزْبُ هنا دفاعاً عن لبنان. ثمَّ الطّامةُ الكبْرى حَرْب اليَمَن.. وهي ليست دفاعاً عن لبنان، ولا دفاعاً عن النَّفس، وإنَّما امتثالٌ لإرادَةِ الثورَةِ الإسلاميَّة، وتضييقٌ استراتيجيّ إيرانِيّ للمَدَى الحَيَوي السُّعودي. فأصبحَ بالتّالي حِزبُ الله “قوَّةً خاصَّة” لتنفيذِ “عمليّاتٍ خاصَّة” خارج الوَطَن لحِسابِ دولةٍ أخرى. ومعَ أنَّ مشاكلَ لبنان كثيرَة: الاقتصاد، المُخيَّمات، الفساد، البطالة، الهجرة، جراثيم الإرهاب، غلاء المعيشة، التخلُّف الاجتماعيّ والإداريّ، إلاَّ أنَّ سلاحَ الحِزبِ في لبنان بقيَ عائقاً إقتصاديّاً كبيراً، لأنّه أبقى على حالةِ طوارئ مضطربةٍ إلى أجَلٍ غير مُسمّى. ثمَّ فَصائلُه ذاتُ اللّونِ المَذهبيّ الواحِد زائِد عمليّاته في اليَمَن إيقادٌ مُخيفٌ في نار المَجمَرَةِ السِنيَّة الشّيعيَّة اللاهبَة في المنطقة، والتي لن تنتهيَ بحَسَبِ نبُوآتِ هنري كيسنجر قبل قرْن من الزَّمَن. لقد كانَ العَدوُّ في الغرب فأصبَحَ الآنَ في الشَّرْق، وشريكاً في العُرُوبَةِ والدِّين والتّاريخ! من هو العدُوُّ يا تُرى الآن في نظر حِزْبِ الله؟! هلِ الثورَة الإسلاميَّة هي التي تُحدِّدُ للحِزْبِ أعداءَه؟! وإذاً لم يَعُدْ حِزْبُ اللهِ مُقاوَمةً شريفة، ولم يَعُدْ مدافِعاً عن لبنان، ولا عنِ العُرُوبةِ والإسلام، ولا كرَامةِ الشَّعْبِ العَرَبيّ.. ولكنَّهُ سَيفٌ مَسلولٌ بيَدِ قايين في وَجْهِ هابيل! ورُبَّما ثأرٌ جَريحٌ نامَ في كهفِهِ لـ 1500 عام، فاستفاقَ باحثاً عن غريمِهِ القديم في زَمنٍ جديد. لقد وُلِدَ حِزْبُ الله ميليشيا مَحليَّة، وشَبَّ مُقاوماً بَطلاً.. ولكنّه، للأسَف، شاخَ فريقَ كومندوس مأجوراً لعَمَليَّاتٍ خاصَّة في غيرِ مكانٍ منَ العالم.              

Comments are disabled.