وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

مقال

مقال

رأيتُهُ للمَرَّةِ الأولى في نادِي عمشيت.. يُلقي قصائِدَه بنَبْرَةٍ أثيريَّةِ النَّغَمِ رَخيمَةٍ.. في أُمسيَةٍ شِعريَّةٍ صاخبَةٍ في بَحْرِ الثَّمانيناتِ الصَّاخب. كنتُ مُراهقاً آنذاك.. وعلى مَقعَدِي الخَلفِيِّ حَدَّ الجِدار كنتُ أستمِعُ إلى بَلاغَةِ عَينَيهِ وفَصَاحةِ إيمَاءَاتِهِ وَبيَانِ حَرَكةِ الوَجْهِ بينَ الوَرَقِ أمامَه وَبَينَ المَدَى.. كأنَّهُ نَبِيُّ شِعْرٍ تَتَراءَى لهُ رَبَّاتُ الكلِمَةِ المُجنَّحَة، فتُملي عليهِ من آياتِها غَرَائِبِيَّاتِ الفنِّ والجَمال.. فإذا بهِ كلَّمَا اكتشَفَ سَمَاءً تفتَّحَتْ لهُ سَمَاءٌ جَدِيدَة! كانَ في خِطابيَّةِ أدائِهِ أعمَقَ تأثيراً مِنَ القَصيدَةِ عَيْنِها. لقد تتلمَذَ هنري زغيب في مَدرَسَةٍ أدَبيَّةٍ ترَى في الشِّعْرِ ظِلاً مِنْ ظِلالِ الألوْهَةِ في هذا الكون، فغَدَتْ مَعَها القصيدةُ ابتِهَالاً، واللُّغَةُ صَارَتْ مَذبَحاً، والحُبُّ قرباناً. القَصيدَةُ عندَ هنري زغيب “مُمَسْرَحَةٌ” بجُودَةٍ وإتقان، ونحنُ إزَاءَهُ لا نسمَعُ الصُّوْرةَ الشِّعريَّةَ ولكن نُبْصِرُ ونُشَاهِدُ! أليْسَ هو الذِي قال: “يَخْشَعُ صَمْتِي كَيْ أسمَعَ عَيْنَيْكِ”؟ وهو بالتَّالي في “مَسْرَحَةِ القَصِيدَةِ” أكثرُ إبداعاً منهُ في قلمِهِ. وتلكَ “المَسْرَحَةُ الشِّعْريَّةُ” تُنبِتُ في وجْدانِ المُتلقِّي جِوَاءَاتٍ وأكوانَ وقَصائِدَ أخرَى غيرَ القصيدَةِ بحَدِّ ذاتِها. فسَامِعُ شِعْرِ هنري زغيب يُصبحُ شَاعراً، وَالعَظَمَةُ الحَقَّةُ لا أنْ تشعُرَ بعَظَمِةِ القَصِيدَة.. بلْ أنْ تشعُرَ بأنَّكَ أنتَ شَاعِرٌ لأنَّكَ تَقرَأُ أو تسمَعُ تِلكَ القَصيدَة. (داناي)، وَنُفَضِّلُ لو كانَ عنوانُ كِتابِ هنري كلمةً واحِدَةً “داناي”، مُوسيقِيٌّ بَليغ! تَمَاماً كَمَا (رِندَلَى) و(فاوسْت) و(غَلوَاء)، إن هو إلاّ باقةٌ منَ الكلِماتِ الرَّسُوْلاتِ، حَافِيَةً في هَيْكلِ النُّذُور، وَعِتقٌ نِرفانِيٌّ وَوَطنٌ يُوتوبيٌّ تُخُومُهُ الدَّهشَة، إنَّهُ زلزَالُ غَرَام! تاريخيّاً، (داناي) حِكايةُ عِشْقٍ مَمْنوْعٍ في صَحَائِفِ الميثولوجيَّاتِ الإغريقيَّةِ القديمَة، ذاتُ أبعادٍ ودَلالاتٍ فلسفيَّةٍ شتَّى. وأمَّا هنري زغيب فراحَ يُنقِّبُ فيها عنِ الحُبِّ.. والحُبِّ الصَّافِي فقط! أقولُ “الصَّافِي” لأنَّ هنري يَنتمِي إلى عَائِلةِ “الشِّعْرِ الصَّافِي” بحَسَبِ الأب بريمون.. من أبو تَمَّام إلى البُحتُريّ وَسَعيد عَقل فأدُونيس، مالارميه وريمبو وبول فاليري.. هؤُلاءِ المُقتنِعُوْنَ بالشِّعْرِ نَحْتاً فِي الضَّوْء، وَرَسْماً فِي الرِّيح، وَعَزْفاً فِي النَّار. و(داناي) باختِصَارٍ روايةُ حُبٍّ بَيْنَ فاتِنَةٍ صبيَّةٍ وشاعِرٍ في خَريفِهِ، تَحُولُ بَينَهُما حَوَاجِزُ القِيَمِ والمَوْرُوثاتِ والتَّقاليد. ولكنَّ الوِصَالَ الوجدانِيِّ عابرٌ لكلِّ هذِهِ الحَوَاجِزِ التَّافِهَة.. فيَبْقَى الحُبُّ لاهباً فوْقَ نارِ الرَّسَائِل والمُوَاعَدَة واللِّقاءَاتِ السِّريَّةِ والبَوْحِ والمُغازلَة والمُناسباتِ والهَدايا، منَ النِّدَاءِ الأوَّلِ حتى حَدِيثِ داناي وَشَاعرِها فِي عِيْدِ حُبِّهِما. أتُرَى (دَانايُ) الإغريقيَّةُ تُشبِهُ (دَاناياهُ) هو؟ تلكَ الصَّبيَّةُ البارعَةُ الجَمَال.. وافدَةً مِن طفولتِهَا إلى رَبيعِها.. لتَخلُقَ فِي خَريفِهِ رَبيْعَ الصَّيفِ الهِندِيّ!! لَو لمْ تَكُ (دانايُ) كائِناً زَمَنيّاً.. فهيَ حَتماً فِي الزَّمَنِ الشِّعريِّ حاضِرَةٌ بجَبَرُوتِ أُنوثَتِها.. وَبِهَيبَةٍ وَسِحر.. إنَّها بنْتُ الذَّاتِ المُتدَفِّقَةِ في الشَّوْقِ والخَيَالِ الرَّحب. ويَملُكُ وجدانُ الشَّاعرِ من أدَوَاتِ المَوْهِبَة ما يُمَكِّنُهُ أنْ يُنَسِّلَ مِنْ ثوْبِ اللاَّهوتِ خُيُوطاً لِيَحِيكَ بها وَثنَهُ الصَّغيرَ الجَميل. (دانايُ) رِحْلةُ عِشْقٍ فِي قارَبِ الشِّعْرِ، مَنثوراً كانَ أو عَامُوديّاً أو سَرْداً حكائيّاً، تتَحَرَّى التَّشويقَ في السَّرْدِ، والخِطابيَّةَ الشِّكسبيريَّةَ في النَّثر، والغِنائيَّةَ في النَّظمِ الكلاسيكِيّ، وأجَادَ هنري زغيب فِي الثَّلاثَة. الشَّاعِرُ والرَّاوي وَنبُوْءَةُ العَرَّافِ هيَ أبْعَادُ شَخصيَّةِ هنري الثَّلاثَة: البُعْدُ الأوَّلُ يَنطُقُ بالجَمَالِ العُجَاب، والثَّاني يُمَهِّدُ لمُناسبَةِ القَصيدَةِ، والثَّالِثُ هوَ الشَّكلَةُ التي أرَادَ بها هنري رَبْطَ تَجربَتِهِ بالرَّمْزِ الإغريقِيِّ القديم، فيُعطِيَ بالتَّالي لمَحْبُوبَتِهِ وَهيَامِهِ بها لوناً رُوْحيّاً يوتوبيّاً خُرَافيّاً. فأمْطرَها وابلاً مِن ذَهَبِ شَاعِريَّتِهِ وابتِهالاتِهِ، وَضرَعَ إلى لاهوتِ الحُبِّ أنْ يَمنحَهُ الحَيَاةَ المُضَاعفَة، وَالحَيَاةُ المُضاعفَةُ عَيْنُ الحُبّ. فالحُبُّ عندَه مُدَمِّرٌ عِملاقٌ لدَوَّامةِ الولادَةِ والمَوت، لأنَّهُ طاقةُ الخلودِ وغِيَابٌ دائِمٌ وَرَاءَ الحَيَاة! وأمَّا من حيثُ الشَّكلِ الشِّعْريِّ فلِهُنري وَلَعٌ، وَكمَا دائِماً، بالمُفرَدَةِ المُتوَهِّجَةِ المُتألِّقة، يُصَنِّعُها بحَذَاقةِ مُحتَرفٍ، ولَو على حِسَابِ القاعِدَة العَصْماء. فتُضْفِي على الجَمَالِ جَمالاً: تَتَوْأما معاً، أتأبْجَدُ، السِّوَى، وَالكانَ، المُنتظِرُها، أمشِي على رؤُوسِ كلمَاتِي وَحَذَرِ أنفاسِي، زَأبَقَ الوَهْمُ سِنِينِي، تفتَحِينَ بَابَ المُفاجَأة، أخِيْطُ ثوْبَ الوَقت… وَمَثيلاتُها الكثير.

وأختُمُ ببَيْتٍ لهُ رَخِيمٍ مِنْ قافِيَّةٍ على الخَفِيف:

 فاسْمَحِي أنْ أفِيْكِ باللايُجَارَى

مِنْ كلامٍ لا أدَّعِيْهِ رَفيقا

أدَعُ الصَّمْتَ يَسْتَفِيقُ بشِعْري

فامْنَحِيْنِيْ شُعُوْرَكِ المُسْتَفيقا.

وفي إحدَى المُناسَباتِ انبَرَى يَقول: “إنَّ مَرْسوماً رئَاسيّاً واحِداً يُعيِّنُ عَشَراتِ المُوظَّفين الكِبار في الحُكم، ولكنَّ جَميعَ مَراسيمِ الدُّنيا لا تُعيِّنُ شاعِراً واحِداً”.

   في 14/3/2017

Comments are disabled.