وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

مقال

مقال

  عَن دارِ سائِرِ المَشْرق، أصدَرَتِ الرِّوَائيَّةُ اللبنانيَّة لورا مَقدسي في 363 صفحَة طبعتَها الأولى 2017، مِنْ أثَرِها الابداعِيِّ الثَّانِي (مَوسِمُ الهُجرَةِ إلى الحُرِّيَة). فهاجَرَتْ مَعَها ذاكِرَتُنا إلى السُّودان.. إلى هجرَةِ الرِّوائِيِّ الطيِّب صَالِح إلى الشِّمال! حَتماً.. لمْ تَفرضْ روايةُ الطيِّب صالِح عنوانَ لورا مَقدسي.. خصوصاً فِي ظلِّ شَرق أوسط تَناوَبَتْهُ المَوَاسِمُ الدراميَّةُ التي لمْ تنتَهِ بَعد، بِدْءاً منَ المَوسِمِ الفلسطينِيِّ إلى المَوسِمِ السُّودانِيِّ واللبنانِيِّ فالعِراقِيِّ ثمَّ السُّوريِّ وأخيراً اليَمَنِيّ. والثَّمَرَةُ المُرَّةُ لهذِهِ الترَاجيديا اللاهبَةِ طابورٌ مُخيفٌ منَ النُّزُوحِ المُتوالِي والهجراتِ المُتعاقبَة.. كابوساً يَنطحُ كابوساً في وَعْيِ الإنسَانِ العَرَبيِّ شِبْهِ المَوَات. وبكلمة.. الرِّوَايَةُ جاذبَة! لقد أتقنَتْ لورا لُعبَةَ الزَّمَنِ المُتَشَظِّي والذَّاكِرَةِ المُتَداعيَة، بَينَ ثمانيناتِ الحَرْبِ الأهليَّةِ وألفيَّةِ الحَدَاثةِ والحَداثةِ الفائِقة. ففتَحَتْ لنا نافذةً على الحَرْبِ ونافذَةً على السَّلام، وَأرَتْنا بكاميرا فنِّها الرِّوائِيِّ الشيِّق لوحةً من بيروت وأخرَى من السُّوَيد، صورةً منَ الأسرِ وأخرى منَ الحُرِّيَة، قبسَةً من الحُبِّ الزَّاغِبِ الجَريح وقبسَةً منَ الجنسِ الغارقِ في دَوَّامَةِ الغُربَة. فشَكَّلَ هذا النَّثرُ الزَّمَنِيُّ المُتدَفِّقُ نسيجاً روائيّاً، شَكَلَتِ الحَرْبُ الأهليَّةُ خُيوطَهُ الأولى في بَيروت وبَلدَةِ برمَّانا، وَلوَّنَتِ الهجْرَةُ تطريزاتِهِ الأخيرَة.. من موسكو إلى وارسو فأوستاد وغوتنبورغ ثمَّ مولندال حتى العاصمَة ستوكهولم، وهكذا بسَطَتْ أمامَنا واقِعَ المأساةِ المُتكرِّرَةِ عينَه. البَطلَةُ هيَ الصِّحافيَّة الهاويَة ليلي، وَحَتماً هيَ إسقاطٌ لِصُورَةِ لورا! ليلي التي هاجَرَتْ إلى السُّوَيد بُعَيدَ مُحاولةِ اختِطافِها واغتِصابِها عندَ عَطفةٍ من عَطَفاتِ المَدينةِ التي أدمَنَتِ النَّارَ والمَوت، تاركةً وَرَاءَها نديم.. الحُبَّ اليائِسَ الذي زادَ في نزيفِهِ الخِنجَرُ الطَّائِفِيُّ البَغيض. فَنَجَّرَ الحُبُّ الجَريحُ وبيروتُ المُشتعِلَة وَحادِثةُ الاغتِصابِ قارَبَها إلى الغُربَة. ثمَّ راحَتِ الوُجوهُ والأخيلَةُ الجَديدةُ تثِبُ إلى داخِلِ هذا القارَبِ القلِقِ المُبْحِرِ إلى جُزُرِ الحُرِّيَةِ، تَحْتَ أشرعَةِ الوَهم! المُهَرِّبُ الفلسطينِيُّ، بيرون الشَابُّ الجامعِيّ، فيرا المُدَرِّسَة، مُصطفى المُثقَّفُ المُناضِلُ الكردِيّ، علي الشِّيعيّ العِراقِيّ، سام أُستاذُ اللُّغات، ثمَّ الصِّحافِيّ نسيم، وأخيراً هنريك المُهندسُ الكهربائِيّ الغريبُ الأطوار. والِدُ ليلي في بيروت ذو عَقيدةٍ شُيوعيَّةٍ وثقافةٍ يساريَّة متعاطِفة معَ القضيَّةِ الفلسطينيَّة، وأمَّا هي فقد عَشِقَتْ رُوْحُها الانعِتاقَ منَ الفِكرِ المُتَمَوضِعِ والذِّهنيَّةِ المُلتَزِمَة، وسَئِمَتِ الدِّيناصوراتِ العقائِديَّةَ العابرَة للقارَّات وفلسَفاتِها التَّقليديَّةَ المُحتَضِرَة. ومُقاوَمتُها لأبيها بليبرَاليَّةِ أهوائِها، في نهايةِ المَطاف، ألهَبَ عينَيْها وَعاطِفتَها نَحوَ الحُرِّيَة، فتَرَكَتْ بيروت إلى السُّوَيد. وَطريقُ الحُرِّيَةِ جُلجُثةٌ طويلةٌ لم تَحْسِبْ لها حِساباً البتة! فألفَتْ نفسَها من جديد حاملةً صَليبَ اللُّجُوءِ السِّياسِيّ، معَ كثيرينَ منَ الأوسَطيِّين وكلِّ بلادِ الأرض، تُعاني كَلاجئَةٍ وتذوقُ ما ذاقَهُ اللاّجئُونَ مِنْ إهمَالٍ وَذُلٍّ واحتِقار.. وعلى أيدِي رُعَاةِ الحُقوقِ والكرَامَةِ الإنسَانيَّةِ وَحُماتِها! فانتظرَت طويلاً لتَحصَلَ على قرارٍ يَعترفُ بإنسَانيَّتِها، وتدفَّقتْ أنهارُ المَوْتِ منَ العُيُونِ فجَرفَتْ في طريقِها الحُبَّ والحَيَاة، ولمْ يَبْقَ سِوَى العَدَم. واصطدَمَ الحُلمُ بجدارِ الواقِعِ المُرّ، فأصبَحَتِ الغُربَةُ رَحيلاً من جُهنَّمِ النَّارِ إلى جهنَّمِ السَّلام. ثمَّ شاهَدَتْ ليلي في السُّوَيد تداعياتِ الحربِ العِراقيَّة الأولى على مُهاجِريها العرَبِ والأجانب من أصولٍ عَرَبيَّة، فرَوَتْ لنا بدراميَّةٍ مؤثِّرَة حادثةَ مقتل الشَابِّ عليّ على أيدي تُجَّار المُخدِّرات، حيثُ عمِلَ في المَمنوعاتِ فيَحصَلَ على المالِ بسُرعةٍ، ليُنقِذَ عائِلتَهُ منَ المَعمَعَةِ العِراقيَّة، ويُحضرَهم إليهِ في السُّوَيد. ثمَّ انتَهَتْ أخيراً إعلاميَّةً في شَتَّى مَيادِينِ الصِّحافة، المَكتوبَة منها والمَسموعَة، وتخَصَّصَتْ فِي الحَدِيثِ عنِ أحوالِ وَظرُوفِ اللاَّجئِين تَحتَ حِمايةِ الأمَم المُتَّحِدَة. واستقرَّتْ في العاصِمَة ستوكهولم، وكتبَتْ أخيراً تلكَ الرِّسالةَ اليَتيمَةَ إلى ملِكِ السُّوَيد تشكو فيها خَيبَتَها وَمَرارَتَها، فزَادَها الرَّدُّ المُقتضبُ يأساً وخِذلاناً. مِن حيث المُحتَوَى الرِّوائيِّ أصَابَت نُشَّابةُ لورا أهدافاً موفَّقة، و”فَوْكَسَتْ” على جُملةٍ منَ القضايا المُعاصرَة أولاها القضيَّة الفلسطينيَّة. لافتٌ جدّاً رواية صادرَة عام 2017 تُعيدُ البوصلة باتِّجَاهِ القضيَّة الأمّ. وعالجَتِ الرِّوايَة أيضاً مُشكلَةَ الزَّوَاج بينَ الطَّوَائِف، واللُّجوءَ السِّياسيَّ وتداعياتِهِ على طالبِهِ، والظُّروفَ الإنسانيَّة الصَّعبَة للاّجئِين بسَبَب الحروب، والتَّمييزاتِ التي تمارسُها الأمَمُ المُتَّحِدَة في رعايَتِها لعمليَّةِ اللُّجوء، مع كونِها قلعَةَ شُرعةِ الحُقوقِ الإنسانيَّة. كأنّي بلورا تريدُ أن تقولَ أنَّ اللاَّجئَ الأوسَطِيّ، فلسطينيّاً كانَ أو لبنانيّاً أو سوريّاً، سينتهي بهِ المطاف في خَيْمَةِ الأمَمِ المُتَّحِدَة التي تنظر إليهِ لاجئاً منَ الدَّرَجَةِ الثَّالثة. تماماً كما تنظرُ إسرائيلُ إلى اليهودِ الوافدين إليها من البلادِ العربيَّة. لورا مقدسي شُكراً لك، وشكراً لقلِمِكِ السِّلِس، وذائِقتِكِ الأدبيَّة التي نتوقَّعُ بعدُ منها الأفضَل

 في 5/3/2017       

Comments are disabled.