الماينوتور الثاني والفصاميَّة الأوسَطيَّة
في العُنوانِ لُغزَان: أوَّلُهُما، مَنْ هوَ الماينوتور؟ وَثانِيهُما، مَنْ هوَ المَاينوتور الثَّانِي؟ فلنَبدَأْ إذاً بالمَاينوتور الأوَّل. والكلمَةُ (مينوتورُوس)، في الميثولوجيا الإغريقيَّةِ القدِيمَة، مُرَكَّبَةٌ من كلِمَتَين: مينوس وهو اسْمُ أحَدِ ملوكِ جَزيرَةِ كريْت اليُونانيَّة، وتورُوس مُفردَة تعني ثَوراً. وهذا الاسْمُ المُرَكَّب (مينوتورُوس) أُطلِقَ على مَخلوْقٍ خَيَاليٍّ مُرَكَّبٍ من مَزيجٍ مُرعِبٍ مِن إنسَانٍ وحَيَوان، نِصفُهُ رَجُلٌ ونِصفٌ ثَور! كائِنٌ خُرَافيٌّ صَنَّعَتْهُ المُخيِّلةُ الأدبيَّةُ الميثولوجيَّة، إلى جانبِ كَمٍّ هَائِلٍ من تِلكَ الأساطير، التِي إنْ دَلَّتْ على شَيْءٍ، فهي الدَّليلُ على عَقلٍ إنسَانيٍّ خَلاَّقٍ جَبَّار، وفي جَميع حُقولِ الابداع، هو العَقلُ الإغريقِيّ.
بعدَ أنِ اعتَلى مينوس العَرْشَ في جَزيرَةِ كريت، رَاحَ يَسعَى وَيُجاهِدُ لبَسْطِ سُلطانِهِ في كلِّ أنحَاءِ مَملكتِهِ. وَصلَّى إلى الإلهِ بوسيدون أنْ يُحقِّقَ لهُ رَغبَتَهُ هذِه، ونَذَرَ مينوس لِبوسيدون أُضحِيَّةً هي ثوْرٌ أبيَضُ جَمِيل من كريت. وعِندَما حَصَلَ مينوس على مُرادِهِ وأصبَحَ ملِكاً قويّاً، رَفضَ الوَفاءَ بنذرِهِ للإله بوسيدون، حَيثُ أعجَبَهُ جَمَالُ هذا الثَّور الأبيض، فأرادَ الاحتِفَاظَ به. فانصَبَّ عندئذٍ غضَبُ الآلهَةِ على مينوس المَلِك، وباتَ لزاماً عليه أنْ يتحمَّلَ مَغبَّةَ تنَصُّلِهِ منَ الوَفاءِ بالنَّذر. فأوقعَتْ إلَهَةُ الحُبِّ أفرُوديت زَوجَةَ المَلِكِ مينوس باسيفائي في غَرَامٍ جُنونِيٍّ بهذا الثَّوْر الأبيَض الذي منَ البَحر، وهو الثَّورُ الكريتِيّ. وضاجَعَتْ باسيفائي الثَّوْرَ الذي أحَبَّتْهُ، فأثمَرَ هذا الحُبُّ الماينوتور ذلكَ الوَحشَ الأسطوريَّ المُخيف، الذِي راحَ يَفترسُ البَشَرَ ويأكلُ لحمَهُم ليَسُدَّ رَمَقَ جُوعِهِ. ثمَّ صنَعَ بعدَ ذلِكَ المُهندسُ المِعمَاريُّ البارع ديدالوس، مَتَاهَةً عِمْلاقةً قريبَةً من قصرِ الملِك مينوس وبأمْرٍ منه، لأسْرِ الوَحْشِ الماينوتور فيها، فَيَبْقى هُناكَ تَائِهاً فيْها وعَاجِزاً عَنِ الخُرُوْج. ولكنَّ هذا الوَحْشَ في مَتَاهتِهِ المُزْمِنَة، تَحَوَّلَ إلى مَذبَحٍ دائِمٍ للأضَاحِي البَشَريَّة، التِي كانَ يُقدِّمُها مَلكُ أثينا لِمِينوس ملِكِ جزيرَةِ كريت إثرَ حَرْبٍ انتقاميَّةٍ دامية بينَ المَلِكَين، وَتَلاها مُعاهَدَةُ صُلح: سَبْعَةُ فِتيَانٍ وسَبْعُ فتَياتٍ عذارَى كلَّ عامٍ يُلقَى بهِم وليْمَةً لِلمَاينوتور الجَائِع. وَظلَّ الأثينيُّون يَدفَعُونَ هذِه الضَّريبَةَ الباهظة من دِمَاءِ شَبَابِهم وفَتَياتِهم، إلى أنْ بَرَزَ بَطلٌ مِقدامٌ في أثينا هو ثيسيوس ابنُ ملِكِ أثينا، الذي أبحَرَ إلى كريت، وتسلَّلَ بَينَ مَمرَّاتِ متاهَةِ الوَحش، وهناكَ وَجَدَ خَصمَهُ الماينوتور، فبادَرَهُ بطعنَةٍ زَهَقتْ بها رُوحُه، وخمَدَتْ أنفاسُهُ إلى الأبَد. وحَرَّرَ أثينا من عَهْدِ الذُلِّ لكريت ومليكِها. وتزوَّجَ ثيسيوس في نهايَةِ المطاف، من ابنَةِ مينوس المَلِك الفتاةَ الحَسناءَ إرياديناي.
ولهذِهِ الإسطورَةِ مَعَانٍ عَمِيقَة عَدِيدة، استُخدِمَتْ كثِيراً في الأدَبِ والفلسَفة، وأيضاً في السِّينما الحَدِيثة. وما أريدُ أخذَهُ مِن خُرَافةِ الماينوتور هذِه، نقاطٌ ثلاث: أوَّلاً، أنَّهُ كائِنٌ مُهَجَّن، يَختلِطُ في شَخصيَّتِهِ الجَوهَرَان البَشَريُّ والحَيَوانِيّ. ثانِياً، تِلكَ المَتَاهَةُ العِملاقة التِي أُسِرَ فيها كخَلاصٍ منْ عُدوَانِيَّتِهِ ووَحشيَّتِهِ. وثالثاً، هلاكُهُ على يَدِ بطَلٍ عَدُوٍّ غريب، بضَربَةٍ ذكيَّةٍ مُحكَمَة. وهذه النِّقاطُ الثلاثُ هي أسَاسُ تَرْكيبَةِ المَاينوتور الثَّانِي.. الذِي هو العُرُوبَةُ.. أو الشَّخصِيَّةُ العَرَبيَّةُ الرَّاهنَة، والتَّائِهَة.. فِي دِيارِهَا البَائِسَة وبقاعِها الخَاويَة. إنَّ العرُوبَةَ اليَوم كائِنٌ في أقنُومَيْن: السُنَّة والشِّيْعَة. هو كائِنٌ تقمَّصَتْ بدَنَهُ العَلِيلَ الكَليلَ رُوحَانِ مُتَناحِرَتان، فأحدَثَتا فيهِ انفِصَاماً مُرْعِباً! وهذا الصِّراعُ فِي الشَّخصِيَّةِ الواحِدَة أخَذَ شَكلَ حُرُوْبِ وَمَآسٍ دَمَويَّةٍ كثِيرَة، وعبرَ تاريخٍ طويلٍ منَ السِّجَالِ الفِقهيِّ والسِّياسِيّ والثَّقافِيِّ والاجتِماعِيّ. مِمَّا أدَّى أخِيراً، ويا للأسَف، وَبعْدَ نَهْضَةٍ ثقافِيَّةٍ مُبارَكَة في بدايَةِ القَرْنِ العِشرين، إلى الدُّخُولِ في المَتَاهَة.. بل مَتاهَاتِ الغَريزَةِ.. ودَوَّامَاتِ الغَضَب.. والحِقد والثَّأرِ والتَّخوينِ المُتبَادَل. وأضَاحِي هذا الدَّوَرَانِ العَبَثِيِّ المُدَمِّر، كانَ لأقلِيَّاتِ المِنطَقةِ بجَمِيعِ أطيافِهِم ومُكوِّناتِهم نَصِيبٌ فيْها. إنَّه الماينوتور الجَدِيد، في المَتاهَةِ شَرْقِ الأوْسَطِيَّةِ الجَدِيدَة، العَبَثيَّة وَاللاَّمُتَناهيَة. وبَقِيَ هنا، في نِهايةِ المَطاف، أنْ ننتَظِرَ سَاعَةَ دُخُوْلِ البَطَلِ ثيسيوس الذِي سيَضْربُ المَاينوتور الجَدِيدَ الضَّرْبَةَ القاضِيَة، في عُمْقِ مَتَاهتِهِ العَبَثيَّةِ هذِه. مَنْ هو البَطَل ثيسيوس؟! هلْ هو إسرائِيل مثلاً.. أمِ الصُّهيُونيَّة العالمِيَّة؟ أهو زَحْفُ الطَّمَعِ الرَّأسمَالِيِّ الغَربِيّ الغازي؟ أمْ صِرَاعُ التَّكتُّلاتِ الاقتِصَادِيَّة العالمِيَّة الكبْرَى؟ أمْ تُرَاها القِوَى الظَّلامِيَّة التِي قلبَتِ الطَّاولةَ على الجَمِيع؟ أمْ كلُّ هذِهِ مُجْتَمِعةً؟! إنَّ أخشَى ما أخشَاه، يا صَديقِي الإنسَانَ العَرَبِيَّ الرَّاهِن، هو هلاكُكَ الوَشِيك.. وبالضَّربَةِ الذَّكيَّةِ المُحكَمَة على يدِ هذا العدوّ. وهي ذَكِيَّةٌ بما فيهِ الكفايَة، لكي تترُكَ الفُصَامِيَّةَ الغَرَائِزيَّةَ الرَّهِيبَةَ التِي فيكَ على سَجيَّتِهَا.. وبلا أيِّ عِلاج.. فتُودِي بكَ جُنوناتُها وجُمُوحاتُها المُتَهَوِّرَة.. إلى الهَاويَة.
وأخَذَتِ الهُوَّةُ بينَ الأقنومَين: السُنَّة والشِّيْعَة تَزدادُ اتِّساعاً، حتى باتَ من المُستَحيل رَدمُها. وَالتَّناقضُ، من حيثُ الظَّاهر، يَبدو فِقهيّاً لاهوتِيّاً، وأهمُّ بنودِهِ هي: العِصمَة والصِّحَابَة والتَقِيَّة وزَوَاجُ المُتعَة والميراث. والخِلافُ حَوْلَ مسألةِ التَقيَّةِ، والظَّاهِر والباطِن، طريفٌ حقّاً! بحَيثُ يَرَاها أهلُ السُنَّةِ نِفاقاً وسُوْءَ نِيَّةٍ، لأنَّ المُسلِمَ يُظهرُ فيها عَكسَ مَا يُبطِن. ولكن في نِهَايةِ المطاف، وهذا هو الواقِع، فإنَّ في داخِلِ السُنَّةِ خلافاتٍ فِقهيَّةً عَديدة، وفي داخِلِ الشِّيْعَةِ تيَّاراتٌ متناحِرَة أيضاً. وهذا السِّجالُ الدِّينِيُّ المُزمِن إنْ هو إلاَّ قشُورٌ وتَمويهٌ للخِلافِ الجَوهَريّ.. وهو سياسِيٌّ بامتِيَاز! وكما قالَ إدريس هاني (مفكّر شيعي مغربي): “إنَّ الخِلافَ الحَقيقيَّ بينَ الطَّائِفتَين هو الحُكمُ! أي.. مَن يكونُ الإمَامَ والحَاكِمَ في المُسلِمِين بَعدَ وفاةِ الرَّسُول”. وحتَّى المَصَائِبُ والكوارثُ الإنسَانيَّة الأليمَة.. فلِلسِّجَالِ الدِّينِيّ فيها تواقيعُ وتذييلات. وآخرُها الزِّلزال الذِي ضرَبَ منطقةَ بوشَهر الإيرانيَّة عام 2013 الذي تَحَوَّلَ إلى زلزالٍ على مَواقِع التَّواصُلِ الاجتماعِيّ. فوَصَفَ أحدُهُم الكارثَةَ بأنَّها ذنوبُ الشِّيْعَةِ وخَطاياهم! وعلَّقَ آخَر: “يَمْكرُونَ وَيَمْكرُ اللهُ بِهِم”! ورَدَّ الشِّيعَةُ بدَوْرِهم مُتَّهِمينَ السُنَّةَ بأنَّهم انحَرَفوا عن مَبَادِئِ الدِّينِ الصَّحِيح، وفرَضُوا آراءَهم بالسَّيف. وَرَاحَ الطَّرَفان، عبرَ تاريخٍ طويلٍ مَديدٍ غنِيٍّ بالأحداث، يَتَّهمُ واحدُهُما الآخَرَ بأنَّهُ وَرَاءَ الشُّرُور والمَشَاكِلِ والمَصَائِب حتَّى يَومِنا هذا. فقد حَمَّلَ السُنَّةُ الشِّيْعَةَ مثلاً، مَسؤُوليَّةَ سُقوطِ مَدينةِ بغداد بيَدِ التَتَر، وانتِهَاءِ الخِلافةِ الإسلاميَّة، والشِّيْعةُ يتَّهمُوْنَ السُنَّةَ بأنَّهُم سلَّمُوا العُرُوبَةَ والإسْلامَ للصُّهيُونيَّةِ العالميَّة. والسُنَّةُ اليَوْمَ بدَوْرِهم، يتَّهمُونَ الشِّيْعَةَ في كلِّ مكان، بأنَّهُم أدَوَاتُ النِّظَام الفارسِيِّ لتَحقيقِ المَشرُوع الصَّفويِّ الكبير.
لقد وُصِفَتْ هذِه المَعْمَعَة التاريْخيَّة، من قِبَلِ الاعتِدالِ في الفريقَين، بأنَّها تعَصُّب مَذهبيّ لا يَنتُجُ عنهُ غيرُ العُنفِ والدَّمار لكلا الطَّائِفتَين. فنشَأتْ مؤتمَرَاتٌ للحِوَار والتَّفاهُمِ الهادِئ، خصُوصاً (المؤتَمَر الإسلامِيّ العَالمِيّ) في مدينة مكَّةَ عام 2008 والذِي لمْ يُفْضِ إلى شَيْء! وكما قالَ أحمَد الخمليشي (مفكّر إسلامي شيعي): “إنَّ العَالمَ الإسلامِيّ، بأقنُومَيْهِ، لمْ يَعتَدْ بَعدُ على مُمارَسَةِ الحِوار وقبُولِ الآخَر والتَّعَايُش مَعَه”. ثمَّ انبَثَقَتِ الحُلولُ مِنْ هنا ومِن هناكَ، وجَمِيعُها فشِلَتْ أيضاً. ومنَ الحُلولِ المَعقولةِ المَطروحَة أنَّ المَسؤُوليَّةَ مشتَرَكةٌ بَينَ الطَّرَفين، وكذلكَ الخَلاصُ تَعَاوُن بَيْنَ الطَّرَفين، وتَصحِيحُ الأفكار والمُعتَقَداتِ الخاطئَةِ ليسَتْ مَسؤُوليَّةَ المُصيبِ وحدَه، ولا المُخطئِ وحدَه. وأيضاً هذا لمْ يُرْضِ أحداً! وترَاشَقَ الفريقان بأنَّ لا خَيْرَ يُرجَى في الآخر. هذا وأكَّدَتِ الدِّرَاساتُ أنَّ السُنَّةَ وهم 85 % من إجماليّ 1،6 مليار مُسلم، ينظرونَ إلى الإسْلام الشِّيْعِيِّ بعَينِ الرَّيبَةِ والحَذَر. وبَقِيَ الخِلافُ حتّّى يومِنا هذا، تماماً كمَا يُوجزُهُ عالمُ الأزْهَر أحمَد كريمَة: “أُمَّةُ الإسْلامِ مُستَعْصِيَةٌ على الاجْمَاع”.
إنَّ الغالبيَّة العُظمَى منَ الشِّيْعَة، أي شِيعَةِ إيران وشِيعَةِ شَرقِيِّ العَالمِ العَرَبِيّ، يؤْمنون بأنَّ الإمامَ الثَّانِي عَشَر قد اختَفَى، وسيظهَرُ مرّةً ثانيَةً في القيامَة. ومعَ أنَّ هناكَ نظريَّاتٍ شيعيَّةً حولَ الإمَاميَّة، إلاَّ أنَّ الهَيْمَنَة أصبَحَتْ للقيادَةِ الدِّينيَّةِ الشِّيعيَّةِ الإثنَي عَشَريَّة العُليا، ورُموزُها همُ المُلقَّبون بآياتِ الله. وانقسَمَ بالمُقابل السُنَّةُ إلى الحَنَفيَّةِ والشّافعيَّة والمالكيَّة والحنبَليَّة، ومن الحَنبليَّةِ توالدَتِ الحَرَكاتُ الوهَّابيَّةُ والسَّلفيَّة. لقد سيطَرَ الشِّيعَةُ الصَّفويُّون (إسماعيل بن حيدر الصّفوي) على بلادِ فارس عام 1501م. وجَعَلوا الإسلامَ الشِّيعِيَّ دِيناً للدَّوْلة، وحارَبوا السُنَّةَ العُثمانيِّين الذين سَيْطَرُوا على الخِلافَةِ لقُرُون. واستمَرَّ الصِّرَاعُ.. وصُولاً إلى الثَّوْرَةِ الإسلاميَّةِ في إيران عام 1979، فكانت فرصةً لآيةِ اللهِ ورُوحِ اللهِ الخُمَينِي أن يُقيمَ دَولةً إسلاميَّةً بقِيَادَةِ “الوَلِيِّ الفَقِيه”، وهذا مَفهُومٌ مُثيرٌ للجَدَل بينَ الشِّيعَةِ أنفُسِهِم حتّى! وحاولَ الخُمَيني أن يُوَحِّدَ الإسلامَ تحتَ رايةٍ واحِدَة، إلاَّ أنَّ دَعْمَهُ لمَجموعاتٍ في لبنانَ والعراق وأفغانستان وباكستان والبَحرين ذاتِ أجنداتٍ شِيعيَّةٍ واضِحَة، زَعزَعَ الثِّقةَ بَيْنَ الطَّائِفَتين مرَّةً أخرى. وَدَفعَ بالتَّّالي تحوُّلُ إيران إلى قوَّةٍ شِيعيَّةٍ رياديَّةٍ مُعلنَة، بالمَملكةِ العَربيَّةِ السُّعُوديَّةِ إلى تنميَةِ الوهَّابيَّة، لإحيَاءِ الخُصومَةِ القديمةِ بينَ الطائِفَتَين حولَ الفَهْمِ الصَّحِيح للإسلام. ويُؤكِّدُ الدَّارسُون المُتابعون أنَّ الكثيرَ من الحُرُوب الضَّاريَة في الشَّرْقِ الأوسَط عائِدةٌ للسُّعوديَّة وإيران. والتيَّاران الجهاديَّان الأبرز في الطَّائِفتَين: القاعِدَة وَحِزْبُ الله، واحِدٌ سُعودِيّ وآخرُ إيرانِيّ، حَمَلا شِعارَاتٍ مُعادِيَةً لأميركا وَالإمبرياليَّةِ والصُّهيُونيَّة العالميَّة، ونبَذا الشِّعارَاتِ الطائِفيَّة في تَوصِيفِ جِهَادِهما، هما في حَقيقَةِ الأمر، رأسَا حَرْبةِ المُعَسكَرَين في هذا الصِّراعِ العبَثيِّ اللاَّمتَناهي. ولكنَّ كرَةَ الثَّلج كبُرَتْ.. وَكبُرَتْ كثِيراً جدّاً!
شكَّلَ الشِّيْعةُ في جَبَل عامِل، ما يُشبِهُ حَرَكةَ تَنويرٍ في المَذهِبِ الشِّيعِيّ خصوصاً، وفي الإسلامِ عُموماً. مُستفيدينَ من الانفتاحِ السُنِّيّ الذي هيمَنَ في لبنان، كنتيْجَةٍ لِقرَار الأزهَرِ الشَّريف، بالاعتِرَافِ بمَذهِبَين شِيعِيَّين في الإسْلام، من أصْلِ سِتَّة. وقدَّمَ سماحةُ العلاَّمة السيِّد عبد الحسَين شَرَف الدِّين، آنذاك، مَسجدَ صُورَ القدِيمَ والذي كان لِلشِّيْعَة، كهديَّةٍ للسُنَّةِ ليُمارسُوا شَعَائِرَهم الدِّينيَّةَ في صُوْر بحُريَّة. وهكذا أيضاً، عندَما طالبَ شَبَابُ شِيعَةِ سوريا بإقامَةِ تجَمُّعٍ دِينيٍّ سياسِيٍّ خاصٍّ بهِم، قالَ لهُم السيِّدُ محسن الأمين، عندما كان في زيارةٍ لسوريا آنذاك: “من أرادَ أنْ يكونَ شِيْعِيّاً جَعفريّاً، فليَدْخُلْ في صُفوفِ الإخوانِ المُسلِمِين أوَّلاً”. ثمَّ كانَ بعدَ ذلكَ، تاجَ حَرَكَةِ التَّنوير الشِّيعيَّة هذِه الإمامُ السيِّد موسَى الصَّدر، معَ العديدِ منَ العُلمَاءِ العِراقيِّين والإيرانيِّين، فأطلقوا حَالةً نَهضويَّةً توحيدِيَّةً بَيْنَ الطَّائِفَتَين. هذا وَعَددُ مُفكِّري الرِّجالِ السُنَّةِ في ميثاقِ حرَكَةِ المَحرُومِين (حركة موسى الصّدر في لبنان)، فاقَ عدَدَ الشِّيْعَة. ولكنَّ تغييبَ الإمامِ الصَّدْر، وتصفِيَةَ كلِّ رُموز التَّنويريَّةِ والاعتِدالِ في الشِّيعَةِ والسُنَّة بالسِّواء، كالدُّكتور عبد الله عزام (قيادي سَلفي أفغاني) مثلاً، أعادَ الأمُورَ إلى نُقطَةِ الصِّفر. وقامَ كلٌّ من سماحَةِ السيِّدِ محمَّد حسين فضل الله، وسماحة العلاَّمَة السيِّد محَمَّد مهدي شَمس الدِّين، بمُحاوَلاتٍ توفيقيَّةٍ توحيدِيَّة، عَبرَ نشْرِ ثقافةِ المَحَبَّة، وذَهبَتْ أدراجَ الرِّياح. لِتنامَ الأمَّةُ الإسلاميَّةُ مَعَ أفوْلِ شَمْسِ القرْنِ العِشرين، على تَخزينِ وقودِ الحَرْبِ وسِلاحِها في مُستَودَعاتِ الشَّرْق، وَضَجِيجِ النَّفيرِ والطَّبُول.. استِعداداً لكَرْبَلائيَّاتٍ جَديدَةٍ قادِمَة.
هذا وخَارطةُ طريقِ الخَلاص باتت مَعرُوفةً مِنَ الطَّائِفَتَين، وهي واضِحَةٌ للجَمِيع مَفهُومَة، ولكنَّ إرَادَةَ التَّطبيقِ والتَّنفِيذ مَعدُوْمَة! وَتُوْجَزُ في نِقاطٍ سِتّ:
1. الاعتِرافُ المُتبَادَل بينَ السُنَّةِ والشِّيْعة بأنَّ الخِلافةَ الرَّاشِدَةَ لم تُشَكِّلْ خُروجاً عنِ الخَطِّ الإسلامِيّ، وأنَّ ما حَصَلَ معَ أهلِ البَيْتِ هو أخطاءٌ تاريخِيَّةٌ كبيرَة. هذا والتّاريخُ مليءٌ بالأخطاءِ في الهَرَميَّاتِ الدِّينيَّةِ وفي الأُسَرِ الحاكِمَة. والاقرارُ المُتبادَل أيضاً بأنَّ استمرارَ الصِّراعاتِ بينَ الطّائِفَتين عبثيَّةٌ لن تُفضيَ إلى شيء.
2. إعطاءُ الأقليَّاتِ الشِّيْعيَّة في العَالمِ أجمَع حَقَّ مُمارَسَةِ شَعائِرهِم الدِّينيَّة بكلِّ حُريَّةٍ، كونَهُم جِزْءاً لا يَتجَزّأُ من فسيفسَاءِ مُجتَمَعاتِهم، والدِّينِ الإسلامِيّ.
3. تَحريمُ سَفكِ الدِّمَاءِ على الطَّائِفَتَين باسْمِ الدِّين، ومُحارَبَةُ الفاعِلِين بسُلطةِ القانون وَحدَه.
4. قبُولُ الفريقين بالاختِلافاتِ كلِّها بَيْنَ الطَّائِفَتَين: من عقائد وشَعَائر وفِقهيَّات واجتِهادات ومُقدَّسَات، تماماً كمَا تُقبَلُ وتُحتَرَمُ الأديانُ الأخرَى. ثمَّ التَّركيزُ على المُتَشَابهَات، وإبرازُها. وبكلامٍ آخَر القبُولُ والتَسَامُح والمَحبَّة. لأنَّ ليسَ هناك طرفٌ منَ الاثنَين مُصيباً في كلِّ شَيء، أو مُخطئاً في كلِّ شَيء.
5. تقدِيمُ اعتِذارٍ تَبَادُلِيٍّ تاريخِيٍّ بَيْنَ السُنَّةِ والشِّيعَة، عَن كلِّ ما ارتكبَهُ المُعَسْكرَان مِن أخطاءٍ وحُرُوبٍ وصِرَاعاتٍ بحَقِّ الآخَر، ودَفنُ الماضِي في قبُورِ النِّسيَانِ إلى غَيْرِ قِيَامَة.
6. تَحريرُ العَقلِ الدِّينِيّ منَ اللُّعبَةِ السِّياسيَّةِ البَشِعَة الَّتِي تَستَغِلُّ الدِّين. فتُحِيلُ الغَريزَةَ الدِّينيَّةَ والتعصُّبَ إلى أداةِ حَرْبٍ سِيَاسيَّة، فيَنتُجُ عَنها بالتَّالي تدمِيرُ الدِّيْنِ والإنسَان والوَطَن والأمَّة بالسَّوَاء.
تِلكَ هيَ خارطةُ الخَلاصِ منَ المَتَاهَة.
وإلاَّ سيأتِي البَطلُ ثيسيوس ذاتَ يَوْم، إلى الماينوتور الثَّانِي، المأسُور في مَتاهَةِ الغَريزَةِ الطَّائِفيَّة وحُرُوبِها البَغِيضَة، ليَضْربَهُ الضَّربَةَ القاضِيَة، فلا يَبْقى من هذا الشَّرْقِ غير تجمُّعَاتٍ طائِفيَّةٍ مُتناثِرَةٍ مُتناحِرَة، تحْمِي نفسَها بنَفسِها، تماماً كمَا كانَتِ العَرَبُ في الجَاهليَّةِ قبلَ الإسْلام. لقد جَاءَ الإسلامُ ليُحَرِّرَ العَرَبَ منَ الجَاهليَّة، فأعادَهُم التَّطرُّفُ التعَصُّبيُّ الإسلامِيُّ ثانيَةً إلى الجَاهِليَّة.