وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

أبطال سامي معروف بين المأساة والجنوح المجنون

أبطال سامي معروف بين المأساة والجنوح المجنون

حين نغوص بعمق في أحداث رواية «أغانيات» للكاتب اللبناني سامي معروف، الصادرة عن دار الآداب، ومعانيها المتنقلة بين مآسي حكايات أبطالها و «جنوحاتهم المجنونة»، ندرك جيداً أن السياسة في الشرق ليست طريق خلاص الإنسان الذي يريد، نقلاً عن إحدى بطلاتِ الرواية «الأفضل الذي يختبئ في المستقبل»… ومعروف دائم البحث عن المستقبل الواعد الذي يتشوق له الإنسان المتألم، وهنا «الضحايا الغانيات» بعد «ضحايا السجن» في روايته الأولى «رقصات التيه»، وحتى «الضحية الإنسان المرهف» في ديوانه الشعري «قبور الشهوة» الذي صدر بين الروايتين.

ويظل الإنسان «المتألم» في رواية «المأساة الثانية (أغانيات)» هو الخارج من طابور الحياة، لأسباب اختارها بنفسه أو فرضت عليه. وتناول معروف في «رقصات التيه» السبب الأول المتمثل في «أفخاخ الظلم»، ثم جمعها بـ «أفخاخ السياسي الظالم» في «أغانيات»، في تطور تغذى من محطته «الروحية» بين الروايتين عبر ديوانه «قبور الشهوة» الذي حاول فيه معروف إرسال القارئ إلى «أرض ذهبية بعيدة».

وبين سطور «المأساة الثانية»، كتب معروف بموضوعية أكبر عن عالم «يطارد الإنسان حتى السّماء… يهدم نعيماً ويخلق جحيماً»، ولكنه أغفل مطالب تغيير هذا العالم، كما فعل في «رقصات التيه». وقد يعود ذلك إلى إدراكه أن منقذ هذا العالم ليس إلا «رئيساً شبحاً» يحضر في الرواية لقراءة رسالة طويلة غير مترابطة في السرد القصصي توجهها «الإعلامية الغانية» ريهام اليه، وتتناول حقائق «اشتغال الساسة وأدوات السياسة بالمواطنين»، و «مطاردتهم القضية حتى طردوها خارجاً، ورجموها كزانية»، و «مسخهم الإنسان رقماً وآلة خالية من دفء الذات الحساسة»…

وهذا «الرئيس الشبح» هو محور الأسلوب الساخر بامتياز لدى معروف الذي هندس بناءه السردي في «أغانيات» على عمودين رئيسيين هما «الأحداث» و «الرسالة»: الأحداث تروي الحقيقة المرة، والرسالة توبخ وتدين. وذلك، ضمن حبكة كلاسيكية لا تكشف كل أوراقها إلا في الفقرات الأخيرة من الرواية، فيما تتنوع الأساليب السردية عن قصد لتنقذ القصة بحذر من تداعي الأزمنة وتكرارها. انطلاقاً من نقطة استغلال الحرمان الاجتماعي «القمقم المرعب الذي يختبئ في داخله جن الطموحات المجنونة»، يصنع السياسي جيلبير عزوري وآخرون يدورون في فلكه الحقيقة المرة لـ «غانيات» يبحثن جميعهن في الواقع عن رجال «على قدّ وجدانهن الرحب، وخيالهن المتوثب، وأحلامهن المستحيلة».

ولا توفر رحلة «اجتذاب» الغانيات المرأة المتزوجة، أو الفنانة الواعدة، أو المثقفة المنفتحة على أمور الدنيا وأسرارها. وحتى الراهبة! التي تخطفها كمّامة اللعبة القذرة من طمأنينة العبادة والعزلة ساعية إلى جمال غير ملموس…

وتعبرُ الرحلة بـ «فن إدارة الأذهان والغرائز، تحقيقاً لجوهر الحركة السياسية… المصالح». وتسيطر «الظاهرة الجيلبيرية» ببشاعة وغطرسة الطبقة الحاكمة التي تستخدم «الإنسان أداة… وغاية».

الخضوع لجبروت الشهوة يُنهي الأنثى، وأحاسيس البراءة والطمأنية لديها، لحساب خوض السياسيين «حروباً بالوكالة. وتبقى مقولة الضحايا، سواءً في المصحّ العقليّ أو السّجن أو المنفى الاختياري في الخارج… «إلك يوم يا جيلبير عزوري!».

ويبدو أن هذا اليوم يطول في الرواية، حيث يبقى «السياسي الرئيس!» الذي يُفترض أن يُنقذ الأمة من قيادة «الذئاب» لها، شبحاً بلا حضور، و «كرسي اعتراف» للراوي في تأملاته ومشاهداته الأحداث «البائسة التي تزداد بؤساً يوماً بعد آخر». وربما تعمد الراوي هذا السياق مع «الرئيس الشبح» لتأكيد فكرته الأساس… أنّ السياسة ليست طريقَ خلاص الإنسان في الشرق، ولإكساب الرواية أيضاً الموضوعية الكاملة.

وانسجاماً مع الموضوعية، تنبثق حكاية «الكنز السياسي» التي تنسج عباءَتها من خيوط الصفقات «السكسوسياسيّة» ذاتها، ولكنها تكتفي بـ «اصطياد» جيلبير عزوري، مرحلياً، من دون أن تطيحه، فيبقى، والحالة هذه، اقتحام السياسة وجود الإنسان قائماً… ولا نهاية لهذا العالم المجنون إلا بجنونٍ مماثل.

ويبقى السؤال الأخير والخطير الذي يوجهه الراوي إلى «الرئيس الشبح» نفسه، كأنه يريد استحضاره بالقوة، في غابة الفلتان والفوضى: «هل يبقى للضعيف بعدُ حق يُطالب به، ومن ذا الذي يعطيه حقه»؟ للأسف لا جواب في شرقنا السياسي الفاسد!

كمال حنا

جريدة الحياة اللبنانية

Comments are disabled.