وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

رقصات التيه: رحلة في العالم الحزين للسجن

رقصات التيه: رحلة في العالم الحزين للسجن

بيع داغر

 
صدرت عن دار «الفارابي» رواية «رقصات التيه» لسامي معروف. وكان لـ «التمدن» حوار مع الكاتب، شرح فيه رؤيته الكتابية، وخاصة علاقته بما يُسمَّى «أدب السجون»:
«رقصات التيه» عنوان إيحائيّ شاعريّ. تكثرُ الآن مثل هذه العناوين الغامضة. ولا نقدر أن نميّز النوع الأدبيّ لكتاب ما عن سواه إلا إذا كـُتب على غلافه رواية أو شعر أو سيرة أو نقد. لماذا هذه الهجمة المتعمّدة على العناوين الغريبة المبهمة؟!
«رقصات التيه» ليس عنواناً غريباً لهذه الدّرجة. رقصات التيه تعني الرّقصات السّكرى، الرّقصات الضّائعة، رقصات الجنون، وبالتأكيد.. رقصات لا فرح فيها ولا ابتهاج. إنها الحياة العابثة بمصيرها، والماسخة لسعادتها، والموجع المُبكي ظنـّها بأنـّها سعيدة. بالنسبة للغموض، الغموض جذاب. شعر أبي تمام كان صعباً وغامضاً ولكنـّه جذاب. شعر عزرا باوند و ت.س. إليوت كذلك غامضٌ وصعب. الغموض في الأدب جمال وجاذبيّة، لأنّ الرّوح منجذبة، أبداً، إلى ما يحاكيها، والرّوح الإنسانيّة غامضة. تجد الرّوح سلامها وطمأنينتها في بحر الجمال الغامض، الذي لا وسيلة لتفسيره سوى بالشعور به. 
أين تولد الرّواية الحقيقيّة؟ في الواقع، أو في مخيّلة الكاتب وذاكرته؟ 
إذا كنا ملتزمين في كتابتنا، فالأثر الأدبيّ هو كاميرا على قدر كبير من الحساسيّة تجاه معاناة الوجود البشري في هذا العالم. ودأبُه «الفوكسة» على جوانب الألم هذه. وهذا لا يعني أن تكون الكتابة نحيباً ورثاءً! لا، البتة. تجارب الناس فيها الفرح وفيها الكآبة، فيها الانتصار وفيها الهزيمة، فيها الارتقاء وفيها السّقوط. والكاتب الصّادق يرسم بريشة فنـّان مبدع ألوان هذه الكآبات والابتهاجات، ليحوّل عقل القارئ إلى حزنه وفرحه باحثاً عن الخلاص والتوازن الرّوحيّ الكامل. ومهما تطوّرت أشكال الرّواية وتعدّدت، فستبقى تروي درامات فرديّة وجماعيّة، عاكسة عن وعي أو غير وعي، حركيّة تاريخ الأمم. 
لماذا التنوّع في الأساليب الإنشائيّة: الحوار والوصف والخطبة؟
التنوّعات الإنشائيّة في نصّي متعمّدة. أجرّب نمطاً حكائيّاً جديداً يستفيد من مختلف الأدوات الكتابيّة: الحوار، الصورة، الخاطرة، المقالة، الخطبة، المونولوغ، الشعر، الحكمة. برأيي هذا يغني الرّواية، ويقتل السّرد الرّتيب، ويخلق تشويقاً إذا تمّ إيراده بشكل حكيم. الرّواية ليست مجرّد سرد إو إخبار.. هي كلّ شيء. 
تعدّ روايتك من أدَب السّجون. من كتب عن السّجن عربيّاً؟ وما الجديد في كتابتك أنت عن السّجن؟ 
أنا كتبت عن السّجن لذلك فالرّواية تعدّ من أدب السّجن. ولكن لم أكتب لأصنع «جمال القبح» كما كتب الآخرون. أنا كتبت لأوصّف ألماً وأقترح علاجاً. وأريد أن أنبّه على أنّ الوظيفة الأولى للأدب هي «وصف التجربة» أو معالجة التجربة الإنسانيّة. قرأت (شرق المتوسّط) لعبد الرّحمن منيف، و(يوميّات في دفاتر سجين) لمي منسّى، وأظنّ أنّ د. نوال السّعداوي كتبت عن سجن النساء رواية. (شرق المتوسّط) على قدر كبير من الأهميّة. أنا عايشت معاناة السّجين في سجنه، وتلامست مع الأسباب والتداعيات، وأعربتُ عن مُكاشفة أو رؤيا ما، أتوخّى منها أن تكون خارطة طريق لحلّ ما. 
تبدو في الرّواية كأنـّك تريد أن تشعل ثورة في السّجون. إلى أيّ مدى ينجح الأدب في صناعة وخلق الحياة من جديد؟ 
رسالتي في «رقصات التيه» التغيير. والتغيير كما يخبرنا التاريخ قلـّما يكون هادئاً. النقلات التغييريّة في المجتمعات والأمم رافقها صخبٌ وضجيج.. وفي أحيان كثيرة نارٌ ودماء. لماذا؟ لأنّ عمليّة التجدّد مؤلمة. الخروج من الرّتابة المزمنة مؤلم. الانعطاف مؤلم. الولادة مؤلمة. الالتزام مؤلم. الجرأة مؤلمة. وإذا لم يكن هناك من يريد أن يتحمّل الألم سيبقى العوامّ يسيرون في طابور التقليد المخيف وسبيه المزمن. وقد كان للأدب دور عظيم في صناعة التاريخ. أدب الثورة الفرنسيّة. وأدب البولشفيّة. أمّا اليوم فالقوّة التي ستصنع مستقبلنا الإنسانيّ في هذا الوجود، للأسف، هي الميديا. دور الأدب في المستقبل على المحكّ. 
السّجن والحبّ والسّياسة والإيمان. هل نجحت «رقصات التيه» أن تؤلف بين هذه الموادّ المتنافرةً؟ 
يخطئ من يظنّ أنّ الرّواية تتكلـّم عن موضوع واحد.الرّواية ليست بحثاً ولا دراسة ولا مقالاً.. الرّواية كاميرا ذكيّة تلتقط مشاهد ومواقف الحياة المتنوّعة. عندما نروي حكاية إنسان ما، فإنّنا نتحدّث عن بيئته وثقافته وعقيدته وعُقدِه وإخفاقاته وحبّه ونزواته وآلامه وعلاقاته وحريّته، إننا نتكلم عن كلّ شيء. وأهمية الرّواية في أنها تشمل جوانب الحياة كلـّها. 
طروحاتك للحلّ في النـّهاية مبالغ فيها بالمقارنة مع البداية الواقعيّة. على ماذا تستند بطرحك لكي تقنع قارئَك؟ 
هذا العصر هو عصر الصّخب والضّجيج والصّياح. سرعة الحياة وسرعة القفزات التكنولوجيّة وسرعة التواصل وسرعة التعلـّم وسرعة الأحداث.. 
كلّ هذه تولـّد ضجيجاً.. والضّجيج يحول دون سماع واحدنا الآخر. 
من هنا لا بدّ من الصّوت العالي أحياناً لإيصال الصّرخة. المبالغة لا تقنع العقل ولكنـّها تجمّده قليلاً.. وتهزّه وتجعله يفكـّر ثانية. وأنا لا أتوخّى الإقناع الفكريّ بقدر ما أريد أن تؤثر صورة المأساة في الوجدان.

Comments are disabled.