وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

رقصات التيه: رقصٌ تائِه في سجون تائِهة

رقصات التيه: رقصٌ تائِه في سجون تائِهة

غادة علي كلش:

يخوض الروائي اللبناني سامي معروف في روايته الجديدة ” رقصات التيه”الصادرة عن ” دار الفارابي” في بيروت لجى السجون وبراكينها التي تقذف حمماً بين فترة وأخرى. عاملا على ربط أدوار الإعلام والسلطة والمؤسسات الإجتماعية، في شبكة من الأحداث التثويرية ضد منظومة السجون البالية، والتي تعزز بسياستها الهوجاء، ، نِسب الجريمة والمجرمين.

عن عمله الروائي الأول، بعد صدور مجموعات قصصية سابقة له، كان لنا مع الكاتب سامي معروف،  هذا الحوار:

■ تبدو روايتك “رقصات التيه” محطة حياة شائكة وصاخبة، عنوانها “السّجن بكلّ خطوطه التحتيّة، وأمكنته العفنة، ومعاملاته اللامتحضّرة”.هل أردتها ثورة روائيّة على نظام السّجون؟ وإلى أيّ مدى يؤثرالسّرد الرّوائيّ على الواقع؟

“- رقصات التيه” رواية تعكس ما يحدث على أرض الحقيقة. هي كاميرا تصوّر المشاهد المأساويّة المتناثرة في رحاب شرقنا البائس. ليست الغاية البكاء ورثاء الذات البتة، بل خلق حالة رافضة لكلّ “الستاتيكوات” المزمنة التي تقيّد شوق الأمّة إلى التطوّر والرقيّ. فإذا كانت الأحداث صاخبة ومعقدة، والشخصيّات ثائرة ناقمة.. فهذا هو الفصل التراجيديّ الذي نعيشه الآن في واقعنا الرّاهن. ممّا لا شكّ فيه أنّ الشّرق متخلف… بل هو موغل في تخلفه! والأسباب كثيرة. أنا أردت في روايتي أن أسلـّط الضّوء على نقطة واحدة تمثل جانباً واحداً من تخلفنا هي “السّجن”. في السّجن تنحشر آفات المجتمع كلها، بل السّجن هو مجسّم لبكتيريّاته المتنوّعة. وهو الصّورة السّالبة لديناميّة المجتمع ومستوى وعيه ورقيّه. والسّجن أداة حادّة! إذا أحسنا استخدامَها تكنِ الثمارُ مباركة، أو أسأنا استخدامها تكنِ النتيجة “مصنعاً للجريمةِ” مخيفاً مرعباً. تقولين “ثورة روائيّة”! وهل هناك تغيير بلا ثورة؟ التاريخ في كلّ فصوله ومحطاته يؤكد لنا أنّ الثورة هي ديناميّة وروح الحياة. لا تثب الحياة وثبة واحدة إلى الأمام بلا ثورة، لأنّ الثورة ألمٌ وشوق في آنٍ معاً. المتألـّم ثائر، والمُشَوَّق أيضاً ثائر.وأبطال الرّواية أناس عانوا آلاماً وظلماً مزمناً. فدفن الظلمُ في خوابي وعيهم مارداً ناريّاً غاضباً، ينتظر بفارغ

سامي معروف

سامي معروف

الصّبر تلك السّاعة التي يُطلقُ فيها إلى الحريّة. لماذا أسلوب الرّواية في المعالجة؟ لأنّ الرّواية هي الحياة. الرّواية تقول للناس كيف يحيون. ونحن عندما نروي نقول للناس هكذا أنتم تعيشون. هذا حسن فاعملوه وذاك سيّء فاجتنبوه. القصّة مرآة الحياة، لذلك هي خارقة إلى أعماق الذات أكثر بكثير ممّا تفعله الخطبة أو السّجال أو الحجّة أو المقالة أو الإعلان.. إنّها تأخذ القارئ إلى عالمِها الخاصّ وموحياته الممتعة… هناك أراد الكاتب تصويب الوجدان إلى فصل من فصول معاناة الإنسان وجهاداته في هذا العالم.

■ عنوان الرّواية يعاكس خشونة الأحداث وظلاماتِها ومعاناة شخوصها. هل التيه الرّاقص هو بوارق الأمل والحبّ التي عاشها ناجي وسحر في رحلة بحثهما عن الحقيقة؟

“- رقصات التيه” عنوان يحوي التناقض الحقيقي المرّ. الحياة حُلوة ومُرّة في آنٍ معاً. الحياة صراع مستمرّ بين الحياة والموت، بين النور والظلمة، النجاح والإخفاق، الحريّة والعبوديّة، الأمل واليأس… إلخ. الرّقص يرمز إلى الفرح، والتيه إلى الفشل والخيبة والكآبة. إذاً هكذا هي حياتنا في هذا العالم (رقص تائِه). حقيقة موجعة! بيد أنّ أكثر صور الوجع هذا تتجسّد في حياة السّجين. إنّ الشّابّ الذي عمره 45 عاماً مثلاً، منذ عشريناته وهو داخل خارج من السّجون، كأنّ شبابه ليس له بل لآخر.. هذا هو الرّقص التائه. السّجين مقامر بحياته، يلعب بأعوامِه لعبة آثمة غبيّة، ولا يدرك أنه على قاب قوسين أو أدنى من الهاوية. إنّ العنوان سيّدتي يعكس بالضّبط هذه الدّراما الناشبة في ظلامات ووحشة أقبية السّجون. ناجي وسحر هما أيضاً دراما أخرى نُسجَت من مأساة السّجن. ربّما هما سجينا الغرام! أو الظـّلم، أو الإهمال والتسيّب الإداريّ. ناجي سجين مزمن بريء، وسحر صحافيّة ثائرة.. ولكنّ أخاها مجرم خطير من “فبركة السّجن” وهو ليس مجرماً أصلاً. قصّة حبّ بوليسيّة طريفة شَكـَلت حكاية الظلم بحكاية الاهمال الإداري، فتشكَّـلَ الملفّ العاطفيّ الملغوم بين الاثنين ليصلَ في نهاية المطاف  إلى الزّواج رغم عقبة فارق السِّنّ.

■ ثمّة دعوات عمليّة تضمنتها فصول الرّواية لتغيير أنظمة السّجون البالية في لبنان. منها ضرورة اعتبار المجرم مريضاً يحتاج الى العلاج وليس إلى التأديب. وضرورة توقـّف إدارة السّجون بممارساتها التطبيقيّة، عن “المشاركة بتصنيع الجريمة” وإنتاجها باستمرار. هل يمكن للمنظمات الإعلاميّة والأهلية والأكاديميّة أن تغيّر واقع السّجون، وفقاً لمسَار الرّواية ومُجرياتها؟

– هناك حروبٌ مشتعلة في كلّ مكانٍ من العالم حاليّاً. والسّلاح الأقوى الأكثر فعاليّة وإنتاجيّة في قلبِ موازين وخلق موازين أخرى هو وبلا منازع (الإعلام). الإعلام ساحرٌ بارعٌ مخيف. وطالبُ التغيير يكون مخطئاً إذا أهمل استخدام هذه الوسيلة المؤثرة. سحر صحافيّة ثائرة. وثورتها العنيدة أوصلتها إلى قُبلةِ أحلامها ورؤاها. الرّواية صوّرت سحر “مُناضلة أسطوريّة”، وحصلت على مبتغاها في تغيير واقع السّجون في شكل مبالغ فيه. لا بدّ من قول الأشياء بمبالغة أحياناً لشدِّ الإنتباه، أو إعلاء الصّوت لإسماع القادة والمسؤولين. أرجو أن أكون في بعض علاجاتي وطروحاتي المبالغ فيها في نهاية الرّواية قد خلقت شوقاً وحماسة لاستيلادِ سَحَر ما بل سَحَرات في شرقنا العربي يحمِلن لواءَ سحر سالم بطلة الرّواية ويمشين وراءَها.

■ بين الظلم والحرمان، والخطيئة والتوبة،والسّياسة والجريمة،تمضي خيوط “رقصات التيه”.إلى أيّ مدى تقاربُ هذه الخيوط سيرة أناس حقيقيّين؟

– إذا كانت الرّواية تحاكي الحياة، فيجب أن تتحدّث عن كلّ مضامينِها ومكوّناتِها. ممّا تتألـّف الحياة؟ الناس والسّاسَة والانحِراف والعِقاب والخطيئة والإيمان والظلم والحبّ والتسامح والثورة. لقد عرضتُ كلّ هذا في الرّواية. كنت أقول رأيي في كلّ شيء في الحياة من خلال القضيّة المحور (السّجن)، وأحياناً رأيي في أمور دنيويّة أخرى أكثر أهميّة من السّجن. موضوع شهوة الانتقام والغفران مثلاً. موضوع فارق السنّ في الحبّ، ثمّ موضوع توبة الإنسان وهي ليست منه بكاملها! بل هي عمل إلهي سماويّ خارق في أعماق الذات. وعملُ السّماء دائماً يُحيّر العقل. والسّؤال: هل شخصيّات الرّواية حقيقيّة؟ أقول لكِ أنّ الرّواية لم تأتِ من العدَم. ما شاهدته داخلَ السّجن، وأنا أعمل هناك، وآلمني كثيراً، كان حافزاً وملهماً قويّا لأن أكتبَ ما كتبت. لقد صوّرت أناساً حقيقيّين، وآخرين أنصاف حقيقيّين، وآخرين يُشبهون الحقيقة، وآخرين من بنات الخيال. الأسماء مبتكرة والأزمنة مختلفة والأمكنة ليست كما هي. ولكنّي كنت أروي واقعاً حقيقيّاً مُرّاً. وكنت أسعى لاكتشاف رؤيا ما أو حلّ.

■ لِفسادِ الطبقة السياسية دورٌ بارزفي أحداث الرّواية. نعلم أن علم السّياسة يُكتسَب بالدّراسات العُليا والمُمارسات الحكيمة الذكيّة.أين السياسيّ في لبنان من ذلك كلـِّه؟ هل تاهَ في نظامٍ سياسِيّ متوارث إقطاعيّاً؟

– سيّدَتي، ليسَ هناك من نظريّة أو مبدأ أو عقيدة أو ناموس يُطبّق! بالكاد يمارس الإنسان 40 % من هذه الأطر والمواثيق الذي ابتكرها للأسف، هو. ولو طبّق السّاسة أصول السياسة لما كان هناك مشكلة. لقد انحرفت السيّاسَة عن معناها الحقيقي وهو (إدارة حاجات وأمور الناس)، وأصبحت كلمة سياسَة توازي المفردات التالية: ثعلب، نمر، أسد، داهية، ديكتاتور، بازار، بيع وشراء، كول وطعمي، نفوذ وسيطرة، غلبة الأقوى، الزواريب الضيّقة، لعبة الأمم، مصالح الكبار، الصّراع الاستراتيجي… إلخ. لقد ولـّى زمنُ القادة العظماء الذين صنعوا الشّعوب والأمم وأمجادَها. وباتت السّياسة لعبة مراوغة ومداورة “متثعلبة” في أزقـّة حسابات الرّبح والخسارة. ومعاناة الجماهير إن هي إلاّ ورقة لاعبة فوق الطاولة أحياناً وتحت الطاولة أحايين أخرى، بل همُ الوقود الحقيقيّون لنار تذاؤبِ الذواتِ الكونيّةِ الكبرى.

■ روايتك تغزل خيوطَ الثورة على أوضاع السّجون في لبنان. خاصّة وأنّ “عدوى الإجرام في السّجون متداولة”.وعملك الرّوائِيّ يؤكـّد على أنّ مكوّنات المجتمع الأهليّ هم أبطال ملحمة الثورة، لا السُجناء أنفسهم فقط. هل يفلح الأمر برأيك؟

– أنا لست شخصيّة ثوريّة بالمفهوم التقليدي للثورة، وأرفض العنف بكلّ مظاهره. هل تعلمين أنّ للمحبّةِ ثورة؟! غاندي!! يوحنّا المعمدان!! في أحيان كثيرة الأدوات الثقافيّة للثورة أكثر إنتاجيّة. هناك ثورة على طريقة لينين، وثورة على طريقة جمال عبد الناصر، وثورة على طريقة غاندي، وثورة على طريقة بشير الجميّل، وثورة على طريقة أبراهام لنكلن. بيد أنّ أيّ إنسان يملك حسّاً إنسانيّاً وأخلاقيّاً مرهفاً يرى بأمّ عينِه يوميّات سجون الشّرق.. إلاّ وتمور في دمِه نار الثورة حتى ولو كان ذو مزاج وشخصيّة فاترة. قال الشّاعر خليل حاوي واصفاً الإنسان الشّرقيّ: “لا البطولاتُ تنجّيهِ ولا ذلُّ الصّلاة”. أيّ يأس هذا! بيد أنّ الحراك الشّعبيّ الحاليّ مع ما فيه من شوائب وضعف وهشاشة في الوعي الثقافي الضّروري للتغيير.. إلاّ أنّه صنع تغييراً ما، وبعد عقودٍ من الرّكود والاستسلام. لا ثورة حقيقيّة صحيحة قبل مرحلةِ تجهيز الوعي الثقافيّ ومرحلة الثورة الفكريّة.. أو النهضة الفكريّة. لقد مهّد المفكـّرون للثورات في التاريخ: فلاسفة الثورة الأميركيّة، فلاسفة الثورة الفرنسيّة، فلاسفة القوميّة الألمانيّة.. ولم تنجح ثورة لينين إلاّ بعد ثمانين عاماً من التثقيف الماركسي. وكذلك الثورة المسيحيّة في القرن الأوّل احتاجت إلى عقود من النضج قبل انفجارها في رحاب العالم القديم آنذاك. إذاً الثورة الثقافيّة تمهّد للثورة العَمَليّة. ويا ويل أمّة تثور لا تحضيراً فكريّاً يمخضُها ولا ثوابت تؤكـّدها وتواكبها. كرجل يريد أن يشارك في أعظم سباقات السيّارات ولم يتعلـّم القيادة بعد. وفي النتيجة الثورة هي مطلب وحراك المجتمع بكاملة. الثورة يصنعها الأفراد وليس القادة. الثورة تصنع القادة وليس القادة من يصنعون الثورة. بيد أنّ جوهر الثورة هو ثورة على الذات أوّلاً… ثمّ على الشرّ والظلم والتخلف والجشع والاستزلام والاهمال والعصبيّة والفقر والمحسوبيّات وشهوة السّلطة وإله المال. كلّ هذه أصنام خبيثة تحتاج إلى ثائر نبيّ يحطـّمها بشجاعةٍ رسوليّة.. مفسحاً في المجال لقيام مجتمع حديث منتج يواكب الرّكب الحضاري.

■ هلْ يُمكن إدراج هذه الرّواية في خانةِ أدَب السّجون، أم أنّ لك إطلاقاً آخر؟

– الفكرة الرّئيسيّة في الرّواية هي السّجن. فالكتابة إذاً هي من أدب السّجون. ولكن كيف لي أن أعالج قضيّة السّجن في شكلٍ روائيّ؟! أحتاج إلى قصّة وحبكة وأشخاص. خصوصاً أنّ موضوع السّجن ليس شيّقاً. الجمهور يحبّ حكايات الغرام، والصّراعات السّياسيّة، والمؤامرات، والألغاز البوليسيّة، وحركيّة الأحداث المدهشة فلا يشعر بالملل. لقد قدّمت للقارئ فكرة لا يحبُّها في قالب الموضوعات التي يحبُّها. قدّمت فكرة السّجن إلى جانب الحبّ والسّياسة والإيمان والمؤامرة، مستخدماً كلّ الأدوات الإنشائيّة: السّرد والتأمّل والحوار والحبكة الذكيّة غير المتوقعة، المقالة، الخطبة، الحكمة، الخاطرة، المونولوغ، الشّعر. وأعتقد أنّ هذا التنوّع في الأساليب الكتابيّة يجعل القراءَة ممتعة مشوّقة. أمّا عن أهداف أخرى سوى السّجن، فقد تكلـّمت عن التعذيب في السّجون والأساليب البدائيّة في الاستنطاق وأخذ المعلومات. وتكلمت عن الغفران والانتصار على شهوة الانتقام، وهذه لا يستطيعها الإنسان من ذاته، برأيي، فهو يحتاج إلى طاقةونعمة إلهيّة. وجوهر محبّة الله للإنسان هي في مسامحته لخطاياه. وتكلمت أيضاً عن فارق السِّن بين الحبيبين. لقد خلقت “كونتراستاً” قويّاً بين الخير والشرّ في الرّواية لأظهر الشرّ شريراً كثيراً والخير خيِّراً كثيراً. لا بل جعلت الخير غالباً في نهاية المطاف، وعلى يد أشخاص ضُعفاء جعل الألمُ منهم أناساً أفذاذاً. وعندي أنّ آلام الإنسان في الحياة هي التي تصوغ شخصيّته وتحدّد له خياراته. وأرجو أن أكون قد وفقت في مسعاي هذا، والله وحده وليّ التوفيق.

مجلة الكفاح العربي

Comments are disabled.