وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

…أفعال من صنع القدر

…أفعال من صنع القدر

قد لا تكون العوامل المُساعدة على جرف الإنسان في طريق الشرّ متوافرة في حياة امرئ، كما توافرت أو ربما حاصرت شخصًا، كما فعلت مع حارث ملحم النجّار الملقّب بأبو غبرة، بطل رواية “الفن الأسود” للكاتب سامي معروف الصادرة قبل أيام عن دار سائر المشرق، والذي يروي لنا قصة حقيقية تعيش وراء قضبان سجن روميه.
لم يختر أبو غبرة أن يكون شريرًا، فواقعه أقفل عليه جميع السبل إلا سبيل الشرّ، ولكن الصحيح أيضًا أنه لم يختر أو لم يقرّر ألا يكون شريرًا شأنه شأن كثيرين ممّن جارت عليه ظروفهم، غير أنهم عرفوا كيف يخرجون منه ولو بصعوبة كبيرة وعناء شديد.
ولد أبو غبرة في بلدة النّبك في سوريا، ضمن أجواء عائلية قاسية دمّرت فيه العاطفة والوجدان والتمييز بين الخير والشرّ، وجعلته إنسانًا عدائيًا غير مبالٍ سوى بنفسه.
قست عليه الظروف واضطرت عائلته إلى مغادرة البلاد واللجوء إلى الأراضي اللبنانية حين كانت الحرب في أوج قوتها وعنفها. أتت العائلة النجّار من دون أوراق ثبوتية “ليحرمها القدر منها ومن كلمة السرّ للدخول إلى حق الحياة الكريمة، وجنسية تغلّف قلبها بدفء الشعور بالانتماء، ومن ولاءٍ يرسم أمامها هدفًا شريفًا ومعنى ما للوجود” (ص. 166). ومذّاك “رافقه شعور النكرة كظلّه في ذلك الزمن، وكأنه حرفٌ صامتٌ في آخر الكلمة، لا محل له من الإعراب” (ص. 168)؛ وبما أن عدم امتلاك أوراق ثبوتية يجعله في أية حال عرضة للملاحقة القانونية، سواء اقترف ذنبًا أم لم يقترف، قرر التمتّع بالحياة، وإن كشبح، بدلًا من المكوث خلف قضبان السجن. فعاش أبو غبرة في لبنان وهو يختبئ وراء أفعال غير قانونية والهروب المستمر وراء من يؤمّن له ملاذًا ولو موقتًا في زمن الحرب.
دخل النجّار رويدًا رويدًا عالم الجريمة، فأقدم على أعمال سرقة وسطو ونهب وقتل، لجني المال ولإرضاء ملذّاته؛ استغل كلّ من تواجد في حياته ودخل السجن مرّات عدّة بسبب ذلك، لكنه لم يتعلّم سوى احتراف أعماله الإجرامية وتطويرها وجعلها أكثر دقة وأقل عرضة للانكشاف والوقوع في قبضة العدالة. أصبح أبو غبرة مع مرور الوقت فنانًا يمارس جميع “الفنون السود الممسوخة” (ص. 73)، بحرفية ليصبح “كازانوفا السطو والسرقة” (ص. 52)، عامدًا إلى “إلى رمي ضميره ووجدانه في مستوعبات النفاية” (ص. 54) وإلى تقمّص شخصيات جديدة، للهروب من وجه القانون، كلّما انكشف غطاؤه.
ليس النجّار جلّادًا فحسب، لكنه أيضًا ضحية القدر الذي حرمه منذ نشأته حق التمتّع بالحياة كأي إنسان، وهمّشه وحطّمه منذ أن كوته أمه بشوكة القلي كي تلقنه درسًا. وقد نجح الكاتب، في شكل خاص، في إفهام القارئ أن “بطله” ضحية ظروف صعبة وصفها بدقة، لكنه لم يصل إلى حدود التعاطف الذي يلامس التبرير. وقد عرف كيف يرسم خطًا فاصلًا بين طبيعة الإنسان وأفعاله، متخذًا جانب الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو القائل “إن الإنسان خيِّر بطبيعته وأن المجتمع هو ما يفسده”. وأبو غبرة بدوره يقول: “صنعت أشياء فاسدةً كثيرةً في نظر القانون والآخرين، ولكنها لا تنتمي إلى روحي، بل إلى ظروفي، لأنها ليست خياري بل قدري” (ص. 177).
نعيش اليوم في مجتمع ظالم يخلو في العديد من الأحيان من الرحمة والشفقة، وتجبر البعض على القيام بأفعال مخالفة للقوانين، وللعيش بكرامة؛ فحين يتربّص الظلم بالذات الإنسانية ويحكم قبضته عليها ويمعن في نهشها يصبح إذّاك من الصعب التفلّت من براثنه. في الكثير من الأحيان يقودنا القدر إلى طريق نجهلها ونجهل مخاطرها، ولا ندرك ذلك إلا بعد فوات الأوان. نجهل جميعًا أقدارنا ولكن لا نجهل أن الظلم كامن في كلّ زاوية وبإمكاننا الإسهام في التخفيف من وطأته عن الآخرين… وبالتالي عنّا.

جوي غسطين

MONLIBAN

Comments are disabled.