بطل سامي معروف في لعبة الفن الأسود
في روايته «الفن الأسود» (سائر المشرق- بيروت)، يسوق الكاتب سامي معروف قارئه، في نمط غير اعتيادي، نحو أحداث خارجة على القانون، وأحياناً غير إنسانية، ليضعنا من ثمّ أمام عمليات الدهاء المتقن وتكنولوجيا الاحتيال.
يقدّم الكاتب مغامرات بطله (أبو غبرة) «السندبادية» بكلّ ما فيها من شرورٍ امتدّت على مساحة نصف قرن. ومن ثم يترك نهاية بطله الشرير مفتوحة، وكأنه يصرّ على أنّ لا نهاية للشرّ، أو كما يُفضّل معروف تسميته «الفن الأسود». وليس بقاؤه حيّاً يعني التشبّث بحياةٍ تروق له، وإنما لأنه يخوض صراعاتٍ متتالية يخوضها هرباً من شرورٍ سابقة.
يرفد الكاتب إلى القارئ قناعته بأنّ لا سبيل لمعالجة شخصية شوّهتها العقد النفسية، وهو ما حدث لبطل «الفن الأسود»، الذي وُجد ضمن بيئة مشوّهة وظرف وزمان مشوّهين، حددت مسار حياته وتغيراتها.
ربما هي أكثر من بيئة. إنها ظرف وزمان وحياة بهوية ضائعة، بحيث يظل أبو غبرة، انطلاقاً من أصله السوري، بلا هوية في لبنان، تائهاً ومهمشاً كأنّه «شبح محروم من أبسط حقوق الآدميين». ومن ثم نتعرّف إلى بيئته مراهقاً في كنف نفوذ الأحزاب خلال الحرب الأهلية التي تضعه على سكة الرذائل. وبعدها أيضاً نواجه «محدودية» القانون في معاقبة المجرمين جرّاء تدخلات سياسية وحزبية وطائفية، يغمز إليها الكاتب من بعيد وبإيحاءات خافتة ورمزية أحياناً. وهذا ما نلمسه في العمليات التي يُكلّف أبو غبرة تنفيذها من أجل تصفية حسابات بين أشخاص نافذين، وعلاقات تجعله يكتفي بمحطات أشبه بـ «استراحة قصيرة» في السجن، مكانه الطبيعي.
وهنا يستعيد معروف محاور رئيسة من روايته الأولى «رقصات التيه» حيث نجد تفاصيل عن اشتغال الساسة بالمواطنين عبر أدواتهم الخاصة.
يتواجد أبو غبرة في لبنان ويتعايش مع طبيعة مجتمعه بسهولة، علماً أنه يتمتع بشخصية أقلّ ما يُقال إنّها «مبدعة» في شتى أنواع السرقة والابتزازات والخطف. يبني الكاتب تفاصيل هذه الشخصية بعناية ويوظّفها في سياق أحداث يسردها بأسلوب بوليسي رشيق وشيّق، يتحرك بسلاسة مع نبض البطل «المغامر إلى درجة الجنون في خروجه عن المألوف».
تنمو هذه الشخصية إذاً في الانحراف والرذيلة لأنها مرغوبة أصلاً بين الأقوياء (الأشرار) الذين أقاموا له لافتات عند مفارق حياته، وحفزوا جنوحه إلى مزيد من الجنوح. وفي العالم «الغابة»، يتساقط ضحايا عمليات أبو غبرة كأوراق الشجر، وغالباً من دون أن يملكوا فرصة الإفلات من مخططاته أو الرد عليها. أما الاستثناءات القليلة التي توقعه في بعض الفخاخ، فإنها ترتبط غالباً بنزوات نسائية، وكأنّ المرأة هي الكائن الوحيد القادر على ردعه، ولو لفترة وجيزة، عبر إرساله إلى السجن.
يعيش أبو غبرة إذاً حالة انقياد تام نحو طريق الشرّ الواحد الذي يسلكه في الدنيا، وتمرداً كاملاً على الخيّرين الصالحين الذين لا يرى فيهم إلا «ضعفاً خائباً يعجز عن مساعدته». وهو لا يواجه أيّة «انتكاسة» كبيرة في ميدان مغامراته، في حين تومض، في موقف نادر بين سطور الرواية، «فتاتات الإنسانية» في وجدانه أمام القاضي، فيتكلم عن محاولات فاشلة لـ «ترميم» حياته خارج عباءة «الجنّ المخيف القابع في جثة بشري».
وتصطدم المحاولات بافتقاده المحيط العائلي والاجتماعي المناسب لإنجاحها، فتظل النجاحات بالتالي رهينة الانغماس في الممنوع، و «لعنة» البيئة والظرف والزمان التي تسقط محاولة «إنقاذ ما يمكن إنقاذه» نحو عالم أفضل في رؤية «سوداوية» لـ «الفن الأسود» الذي لا يمكن وقفه، لأنّ العقوبات القانونية، كما يرد على لسان أبو غبرة في كلامه إلى القاضي، «لا تكافح الجريمة، ولا الترميم النفسي ولا العلاجات الاجتماعية في جبلتنا الفاسدة».
ويبقى الإنسان «متألماً» في روايات معروف، وضحية الحرمان الاجتماعي الذي يُطلق في داخله جنّ الطموحات المجنونة والحروب العقيمة التي لا جدوى منها. وهو ما يتعمد إظهاره أيضاً من خلال نهاية «اللا نهاية» للبطل أبو غبرة الذي يتوارى شبحاً بلا لون، وبلا رؤية لنجمة تلمع بالأبيض في ليلة حالكة.
كمال حنا – الحياة
28 نيسان 2017