وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

كواليس الفنّ الأسود في مغامرات أبو غبرَه

كواليس الفنّ الأسود في مغامرات أبو غبرَه

في مسلسلٍ لافتٍ طريف من الرِّوايات السّوداء: الأسوَد يليقُ بكَ، الإرث الأسوَد، الثلج الأسود، العشقُ الأسود، الكتاب الأسوَد، الخبزُ الأسود، الأحمرُ والأسود.. إلخ يُضيفُ الرِّوائيّ اللبنانيّ سامي معروف روايةً أخرى سَوداءَ صاخبَةً، لتقفِزَ والحالة هذه المشاهدُ السَّوداءُ الرَّائجَة في ربوعِنا من ميادين السِّياسَةِ والأمن والاجتماع إلى السّاحة الثقافيَّة، والتي أرادَ مبدعوها أن تكونَ تظهيراً أسوَدَ، وصرخةً متفائلة، ومناشدةً غاضبة للكينونةِ البشَريَّة العربيَّة الغارقة في بحرٍ من السَّوَاد مترامي الأطراف، وإلى الآن لا يبدو أنَّ الخلاص قريب!
وكما عبّر الشّاعر اللبنانيّ الرّاحل خليل حاوي في تصويره لواقع الإنسانيّة في هذا الشَّرق: “لا البُطولاتُ تُنجِّيهِ ولا ذُلُّ الصَّلاة”. الواقعُ الأسود الذي يرويهِ سامي معروف في روايتِه الأخيرة (الفنّ الأسود) والصّادرة عن دار سائر المشرق 2017، هو عالم الجريمة! ولكنَّ الجريمَة نتيجة، والفعلَ الإجراميّ في حقيقتِه هو ردّة فعل، ودماغ المجرم، بحسب معروف، غسَلَته ظروفُ الحياة المشوَّهة، وأعادت بناءَه في تركيبةٍ جديدة خبيثة، ليغدوَ بالتالي أساسُ الدّافع الإجراميّ خارجاً عن المجرم نفسِه، والمجرمُ بريئاً! ما الذي يقود الإنسانَ إلى الانحراف؟ تلكَ هي أطروحة (الفنّ الأسود). أهو العاملُ الوراثيّ، والقيَمُ العابرَة من السَّلف إلى الخلَف؟ أم الطّفولة المحرومة من محبَّةِ الوالدَين ودفءِ الحماية العائليَّة، ولأنَّها لم تحصَلْ على لقاحٍ يَقيها المرض، فاختَرَقتها بالتّالي عُقَدٌ نفسيَّةٌ شتَّى؟ أم كمائنُ الحياةِ العبَثيَّة التي تحاصر الإنسان من كلِّ ناحية، وتغلقُ عليه المعابرَ كلَّها، لتتركَ له طريقاً واحداً يتيماً نافذاً، وقد أقامت عند بدايته لافتةً رسَمَت فوقها مصيرَ حياته وقدرَه الأسودَ المَحتوم.
أبو غبرَه هو الشّخصيَّة الرَّئيسيَّة في الرِّواية وبطلُها. سوريّ الأصل ولا يحمل جنسيَّةً! لقد سرقت منه يوميّاتُ الحرب أوراقَه الثبوتيَّة، وحرَمَته من “كلمةِ السِّرّ” للدّخولِ إلى دولةِ الحياةِ الآدميَّة الطّبيعيَّة، وحقِّ العيش الكريم. والده قاتلٌ بقيَ طريدَ العدالة إلى أن مات بالدّاء الخبيث في منفاه، فانتقلت العائلة إلى لبنان في ظروفِ اندلاع الحرب الأهليّة. ثمَّ خُطِفَت الوالدةُ أيضاً في ظروفٍ غامضة، وتوارَت وراءَ كواليس الوجود آخذةً سرَّها معها، وهكذا أصبحَ حارث ملحم النَجَّار حاملُ اللقب الشّهير (أبو غبرَه) يتيماً وهو لم يتجاوز بعدُ العاشرة من سِنِيه، فراحَ يُصارعُ قساوةَ الحياة بنفسيَّةٍ مشوّهَةٍ مريضَة عبثيَّة حاقدَة متوحّشَة، حتى مسَخَته الأيّامُ المشوَّهَة لعنةً بشَريَّةً تدمِّرُ الأرضَ حيث تطأُ قدماه.
تحيِّرُنا شخصيَّة أبو غبرَه.. “مالئِ الدّنيا وشاغل النّاس”، فيما لو أردنا النّطقَ بحكمٍ إنسانيٍّ بعيداً عن المنابر القضائيَّة والموادّ القانونيَّة. هل حارث ملحم النجَّار ضحيَّة أم جلاّد؟ هو جلاّدٌ بالتأكيد من جهةِ ضحاياه الكثيرَة، وأمّا من جهةِ نزَعاتِ والدِهِ المُنحرفة، واليُتمِ المبكِّر، والطّفولةِ المحرومة، والجغرافيا التي شَبَّ عليها وفتِنَ بتضاريسِها في مناخاتِ الحربِ الأهليَّة، وهي العَدَسة بل المكبِّرَة التي نظرَ منها إلى الدُّنيا فرأى العبثيَّة واللامعقول في واقعٍ عبثيٍّ مريض، فظنَّ الحياة هكذا في حالتها الطبيعيّة.. إنَّه ضحيَّة بامتياز!
ويذكرُ حارث جيّداً يومَ أمسكت أمُّه الشّوكة من المقلاةِ مبلّلةً بالزّيت المغليّ ووَشمَتْ بها فخذَه لأنّها رأته يمدُّ يدَه إلى جزدانِها، وآثارُ أسنان الشَّوكة لا زالت تعويذةً مطبوعة على فخذه حتى الآن. وهذا الوشمُ المُخيف بات ضميرَه الذي أقلقه كثيراً في صولاتِه وجولاتِه، قبلَ أن ينساه بالكامل في نهاية المطاف. وذاتَ يوم أرادَ أبو غَبرَه أن ينقذَ عدُوَّه من الموت أثناءَ قيامِهِ بمغامرةٍ إحترافيَّة شجاعة، سأله عدُوُّه: “لماذا فعلتَ هذا؟” أجاب: “مهما كان الظّلامُ دامساً والغيومُ كثيفة.. فلا بدَّ أن نرى نجمةً واحدة في السَّماء”. من هنا نجحَ الكاتب، في إفهام قارئِه أن بطلَه (أبو غبْرَه) هو نتيجة “كمينٍ” أو تقاطع غريبٍ لمَساراتٍ منحرفة وصفها بدقّة، ولكنّه لم يصل إلى حدود التّعاطف والتأييد الذي يلامس التّبرير.
وقد عرف سامي معروف أن يرسمَ خطّاً فاصلاً واضحاً بين طبيعة الإنسان وأفعاله، مع أنَّ كثيرين يقولون بأنَّ الإنسانَ هو أفعالُه! متّفقاً بهذه النّظرة مع الفيلسوف الفرنسيّ جان جاك روسّو القائِل: “إن الإنسان خيِّرٌ بطبيعتِه ولكنَّ المجتمع هو الذي أفسدَه”. ويقول أبو غبرَه في معرض الدِّفاع عن نفسِه: “صنعت أشياءَ فاسدةً كثيرةً في نظر القانون والآخرين، ولكنها لا تنتمي إلى روحي، بل إلى ظروفي، لأنها ليست خياري بل قدَري”.
لقد وصفَ أبو غَبرَه نفسَه في مرافعتِهِ المكتوبة في الفصل الأخير تحت عنوان (خلاصات) بأنّه كائنٌ شبَحٌ! ويقصدُ بهذا التعريفِ البليغ لشخصيَّتِه أنَّ المَدعو حارث ملحم النجَّار واحدٌ من التَّجلّياتِ والتَقمُّصاتِ العديدة في مسلسلِ التَخفِّي والهروب من وجه العدالة. سايد مخلوف، حارث عبد الأحد، حارث قطايا، عادل كلاّوي.. إلخ هم الأقنعة والعباءاتُ التي جعلت منه وجوداً زئبَقيّاً لا يُرى بالعين المجرَّدَة، فباتَ أسطورةً من الأساطير. والأشباحُ لا تقتاتُ من غير خوفِ الآدميِّين منها! ولأنّ أبو غبْرَه شبَح.. كابوسٌ.. جِنٌّ.. فهو يعيش عالةً على رعبِ الآخرين. ويؤكّد لنا بأنَّ هذا قضاءً وقدراً وليسَ من صنعِ يدِه البتة. ولكنّ أبو غبرَه يطرح سؤالاً هامّاً جدّاً وهو: “منِ المسؤولُ عن صنع الأشباحِ والعفاريت؟” وكأنّه يشير بإصبع الاتّهام إلى جهةٍ ما، ثمَّ يُضيف، وبلجاجة، أنّ هذا المسؤول المحتمل خليقٌ بالإدانة والمُحاسبَة! ترى من هو المُجرمُ الحقيقيّ، مستخدمُ السّلاح أم صانعُه؟ من هو الإرهابيُّ الحقيقيّ، صانع العقيدَة المَريضة أم الذي يمدُّه في مرضِهِ والسّلاحِ في آنٍ معاً؟ منِ الذي ينشرُ جراثيمَ الهويّاتِ القاتلة، المتمرّدون على القانون أمِ الذين يشجِّعون المتمرّدين؟ ولكنَّ “مالئ الدّنيا وشاغل النّاس” لا زالَ حتى الآن شَبَحاً يناضلُ في سبيلِ الانعتاقِ من الوَهم إلى الحقيقة، ومنَ العدَم إلى الوجود، ومن قماقم الجِنِّ السَّوداء إلى الجَسَدِ الآدمِيِّ الحيّ. وهو يترَصَّدُ ذاتَه المتناثرَة بينَ السِّرِّ والعلَن، بينَ الزَّرعِ والبَعل، ويُلملمُ فصاميَّاتِ ذاكرتِه بين الموج وحصى الشّاطئ، وتاريخَه المرسومَ خطوطاً مبهمةً بينَ النصِّ وخربشاتِ الهوامش.

Private Magazine

23 أيار 2017

Comments are disabled.