الشّعر في زمن الإنترنيت
قبل عشرين عاماً من الآن، كنّا نكتب قصائدنا البكر بدأبٍ غير قابلٍ للكسر، ربَّما من أثر الفتوَّة وعناد الشّباب، كتبنا بجرأة المختلف وليس بجرأة الرَّاغب في الاختلاف، وحين كنّا نُخرج قصائدنا لنقرأها على آذان الآخرين، كنّا نصغي إلى الآراء التي نسمعها لنتعلَّم منها، حتى وإن هاجمتنا وسفّهت مما قرأناه، وحين كانت الجرأة تشطح بنا، كنَّا نرسل ما نكتبه إلى المجلات الثقافية والدوريات الأدبية، تلك التي نبتاعها حال صدورها لنقلِّب أوراقها لاهثين، باحثين عن أسمائنا وكلماتنا التي رعيناها في الليالي الطويلة بحرص فلاح ينتظر أن تخرج براعم نبتاته من بين شقوق الأرض، لتنتصب قوية تحت شمس النهار، غير آبهة بريح أو عواصف، نمسك المجلة أو الدورية ونقلب أوراقها، ونحن نتمنَّى في أعماقنا أن تكون كلماتنا قد وجدت لها مكاناً على الصفحات المصقولة البيضاء، وكم من مرَّة عثرنا على أسمائنافي باب “بريد المجلة”، حيث يكتب لنا مُحرِّر أدبيّ – لا نعرفه ولا يعرفنا – عدّة نصائح عامة تسيطر عليها روح الأستاذية والنظرة من علٍ إلى من هم أدنى منه مكانة، ورغم هذه النظرة المتعالية التي كنّا نشتمّ رائحتها في ثنايا كلماته، إلا أننا كنّا نفرح بقراءة أسمائنا على الصفحات، أذكر أن أحدهم كتب لي ذات يوم بعيد يقول: “عليك بتعلِّم بحور الشِّعر العربيِّ، وأن تقرأ لكبار الشُّعراء، قبل أن تكتب نصوصًا لا هي من الشِّعر العمودي ولا هي من شعر التفعيلة، صحيح أن ما تكتبه ينمّ عن موهبة، ولكن تنقصه القراءة والاطلاع”، يا الله.. كم من مرّة قرأنا أسماءنا في بريد هذه المجلات؟([1])
اليوم، لا شيء من هذا يحدث يا صديقي، لم تعد المواهب الحقيقية تتكوَّن على نيران هذا الإيقاع البطيء والمملّ الذي كان سائدًا قبل عشرين عامًا، صار لكلِّ من يقول عن نفسه إنَّه شاعر أو كاتب أو روائيّ أو ناقد، صفحاته الخاصّة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي كثيرة مع الأسف، وصفحته هي منبره، شرفته التي يطلُّ منها على العالم، برجه العاجي الذي يخرج منه على الآخرين وقتما يشاء وبالطريقة التي يشاء، هي ملاذه الأخير من العالم الواقعي الذي يحيط به من كلِّ جانب، ينشر من خلالها ما يشاء وبالشّكل الذي يشاء، وله في الـ “Like” مأرب وفي الـ “Share” مطمع، لم تعد عملية النَّشر مقيَّدة كالسابق بـ”فلتر” المحرّر الأدبيّ، هذا الذي كان يُحكِّم ذائقته الشَّخصية والأدبية في نشر أو تجاهل ما يصله من نصوص لمواهب شابة، تبدأ في الاشتباك مع العالم من خلال نصوصها الأولى، صار الأمر اليوم مختلفًا يا صاحبي، يكتب المرء بضعة سطور ويحكم على جودتها لحظة انتهائه من كتابتها، فيقرّر نشرها على الآخرين في اللحظة ذاتها بضغطة زرّ واحدة، هكذا، بكلِّ هذه البساطة والسُّهولة والأريحيَّة والتباسط، .. بكلِّ هذا “العشم”، على هذا النحو وبهذه الطريقة، خُلقت أمامنا ملايين النصوص، وآلاف مؤلّفة من الكتب التي كتبت على عجالة بسبب ضيق الوقت وضعف خطوط الإنترنت، كتب لم تحظ بفرصة لإعادة النّظر أو المراجعة أو الإضافة أو الحذف أو التعديل، أو حتّى التدقيق اللغوي، تراكمت يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، لتنتج لنا المشهد الذي نحياه اليوم عربياً، المشهد الذي يرى المتفائلون أنَّه: “حِراك” حقيقي و”معترك” مطلوب لا بدّ منه لغربلة “الجيِّد” من “الرّديء”، فيما يرى المتشائمون أنّه: خلط “الحابل” بـ”النّابل”، وأخرج دفاتر “خواطر المراهقين” من تحت “وسائدهم” فصارت كتباً تُطبع ليقرأها الناس.
عشرون عاماً صنعت هذا الفارق الكبير بين المشهدين المختلفين يا صاحبي؛ عن يساري صورتي وأنا ابن السَّابعة عشرة أهرول إلى بائع الجرائد على الرَّصيف المقابل لبوّابة مدرستي الثانوية، أنحني لأتناول مجلة “الشِّعر” المصرية الفصلية، لأقلِّب صفحاتها متلهّفاً باحثًا عن اسمي ضمن محتوياتها، وحين لا أجده، أفتح آخر صفحتين من المجلة لأبحث عن اسمي في باب “البريد”، كان الأمر يستغرق شهورًا من الصبر والانتظار، أرسل القصيدة بالبريد العادي – أيام لم يكن هناك غيره – وأنتظر.. عددًا بعد عدد، أكون كتبت جديدًا، وراجعت قديمًا، وأعدّت النّظر من جديد فيما كنت قد تيقّنت من انتهائي منه، وقرأت ما لم أكن قرأته، وشعرت بكلِّ نأمة اختلاف أو تطوّر في تفكيري تبعاً لكلِّ قراءة وكلِّ اطّلاع، وعن يميني صورتي اليوم؛ كسولاً في القراءة والمتابعة، لم أعد متلهِّفاً إلى كتاب جديد أو عمل أدبيّ ذاع صيته، صار جسدي أبطأ من ذي قبل، أو ربّما الإيقاع الزمني هو الذي صار أبطأ، صرت – مثلي مثل غيري – أرسل قصائدي بالبريد الإلكتروني إلى هذه الدورية الثقافية أو ذلك الموقع الأدبي، لتنشر ربّما بعد ساعات قلائل، فارق ليس فقط كبيراً، بل مرعباً، يجعلني بالفعل أتخوّف من الفكرة، فكرة السُّهولة التي أحمد الله الآن أنّني لم أعشها في بداياتي ومراهقتي مع الكتابة، ماذا لو كان الأمر حينها بهذه السّهولة التي نراها اليوم؟! كم من النصوص وكم من القصائد التي كنت سأتسرع في نشرها تحت إغواء التواجد والظهور، لأرجع – فيما بعد – أتبرأ منها تبرّأ الأب من ابن السّفاح، أتخلّى عنها هكذا، واصفاً إياها بأنّها “بدايات لا تعبّر عنّي، لأنّ صوتي لم يكن قد تشكّل بعد”، العبارة ذاتها التي أعرف جيّدًا أنَّني سأسمعها تتردّد كثيرًا في القادم من الأعوام.
حاول معي أن تتأمّل الصّورتين جيّداً، من المؤكّد أنّك ستدرك أين تكمن الفوارق الموجعة بينهما، ستستغرب الصّبر الذي كنّا مجبرين عليه قبل عشرين عاماً، حين لم يكن أمامنا لنشر نصوصنا وقصائدنا وكتاباتنا سوى الصّفحات الثّقافية بالصّحف أو الدّوريات الأدبية العربية، تلك التي لم يكن لها وجود حقيقي إلا بوجودها بين أيادينا في صورة ورقية مطبوعة، حيث لم يكن حينها من إنترنت ولا من يحزنون، ربّما هذا تحديداً ما علّمنا الفرح برؤية أسمائنا مطبوعة بحروف سوداء على ورق مجلّة أدبية أو صحيفة يتداولها الناس، الفرح بفكرة أنَّ نصَّك يُقرأ من قبل آخرين لا تعرفهم ولم تقابلهم من قبل، اليوم لم يعد لأمر الحروف المطبوعة كبير شأن([2])، ولم يعد الإيقاع بطيئًا، صار كل شيء أسرع، الأسماء التي تلمع بسرعة صارت تنطفئ بسرعة، والكتب التي تحقّق شهرة وانتشارًا، سرعان ما يخبو بريقها أمام شهرة وانتشار عناوين أخر، وهكذا دواليك؛ شُهب تصعد.. شُهب تحترق.
ربّما كان هذا الإيقاع البطيء الذي كبرنا تحت ظلّه قبل عشرين عاماً هو السّبب الرئيس في وجود المجاز بوفرة في كتاباتنا حتى اليوم، وغيابه عن كتابات عديدة ولد أصحابها ونشأوا في ظلّ وجود الإنترنت، المجاز بوصفه الستار الذي يتخفّى خلفه غير المتوقع، المجهول الذي لا يبين بسهولة، المجاز الذي صنعته على نار هادئة علامات الاستفهام التي لطالما شغلت عقولنا الصغيرة، مؤكد أنّ الخيال هو الابن البكر للإيقاع البطيء الذي ولدنا وعشنا سنواتنا الأولى في كنفه، لا أتحدّث هنا عن فارق تكنولوجي أو ثورة اتصالات، ولست أقارن بين زمن الجدب وزمن الوفرة، بل أتحدّث بالأحرى عن حلمي الشّخصي حين أشعر بالإنهاك من كلّ هذا الضجيج المحيط بي، حلمي البسيط المتقشّف بالعيش في كوخ فقير على ضفّة نهر في غابة ما، حيث لا أرى شيئاً في الليل سوى النّجوم ترصّع السّماء، ولا أسمع سوى خرير الماء ينساب في الجوار، وصوت عصفور يغرّد أو هسيس حشرات الليل، وأنا أحتمي في كوخي من حيوانات الغابة وزواحفها بصحبة كتاب تهرّأت أوراقه من كثرة القراءة، أقرأ سطوره على ضوء نيران مشتعلة في مدفأة صغيرة، أحرق فيها ما جمعته نهاراً من أغصان الشجر الجافّة، لكنّني – ونكاية في حلمي الخيالي – سرعان ما أخرج من حلمي الخاطف على صوت رنين هاتفي المحمول، أو صوت مفاجئ لسيارة مسرعة تعبر الطريق في الخارج، فأرجع إلى واقعي السريع لأغرق فيه، أعدو خلفه لاهثاً كي لا تداهمني عقارب وقته فأكون من الخاسرين.
ربّما علّمنا الإيقاع البطيء قبل عشرين عامًا التأنّي في إصدار الأحكام، وعدم التسرّع في الفهم الخاطئ للأمور، صحيح كان الإيقاع بطيئًا، إلا أنه علَّمنا الحرص على فرادة الكلمة التي نكتبها، على خصوصيتها في القالب الذي نخرجها من خلاله، شعرًا كان أو سردًا أو نقدًا، عوّدنا هذا الإيقاع البطيء أيضاً على أن نكون متشكّكين في كلِّ شيء من حولنا، حتى فيما نكتبه، وأن نمنحه الوقت الكافي كي يتشكّل ويتكوّن ويختمر بداخلنا، لم تكن أصابعنا التي تكتب القصائد على ورق مسطّر بحروف منمّقة، تعرف أنّه سيأتي عليها يوم ستتراقص فيه فوق أزرار لوحة مفاتيح تابعة لأجهزة الكمبيوتر، كانت الكتابة بالنسبة إلينا – وباختصار – “أصابع ملوّثة بالحبر”، وأوراق عديدة “ممزقة أو مكرمشة” تملأ سلّة المهملات أسفل مكاتب دراستنا، بعدما أخطأنا في كتابة كلمة، أو بعدما سهينا عن كتابة سطر في القصيدة، فاختل الإيقاع، لنعيد الكتابة من جديد، بصبر عنيد نسخنا قصائدنا ونصوصنا، صوّرناها لدى أصحاب المكتبات لنصنع منها نسخاً لأصدقائنا وأحبّتنا، ولنرسلها إلى المجلات والدوريات الثقافية، وعلى هذا النحو؛ جرّبنا في الكتابة بما يكفي حتى تفرّقت بنا السُّبل، منّا من ربح.. ومنّا من خسر، لكنّنا ما زلنا كما كنّا، مؤمنون بأنّنا عابرو سُبلٍ، سرعان ما سيختفون عند أوّل منحنى للطّريق، ولذلك يتنافس الحقيقيون منَّا في ترك أثر ولو بسيط، كي يتمكّن من رؤيته أحد ممّن سيأتي بعدنا.
اليوم، أومن أنَّ هناك من هم على شاكلة الصّورة الأولى؛ أبناء الإيقاع البطيء، حاملو فضيلة التأنّي، أعرف هذا وأكاد أكون موقنًا منه، لكن هناك أيضًا من لا يعوّلون على شيء، فهم أبناء هذا الإيقاع السّريع المليء بالضّجيج الذي يصمُّ الآذان، فترة طويلة مرّت وأنا أتأمّل الصورتين ذاتهما وأشعر بعلامات الاستفهام تتخبّط من جديد في رأسي جيئة وذهابًا، ليس انحيازًا إلى صورة منهما على حساب أخرى، بقدر ما هي مساءلة للاختلافات التي عشناها قبل عدّة سنوات عمّا نحياه اليوم من راهن ثقافي عربي مليء بالعوار والنقصان، كأنّه حُكم علينا أن نحيا أزمنة التردّي على جميع المستويات في أسوأ صورها عربيًا، الحالة السياسية التي نشهدها اليوم عربياً كفيلة بتقديم الأدلة الكافية على هذا التردّي، في ظل هذه الهزائم المتكرّرة للحالة السياسية يصبح الحديث عن قضية ثقافية مثل التي نتحدّث عنها الآن ترفًا غير مسموح به، وهو ما لا أستطيع إنكاره، فكيف لنا الحديث عن مصير الشّعر العربي في أزمنة تشهد فيها المنطقة العربية بأسرها تلك التغيرات الجذرية المزلزلة؟
ما أستطيع قوله اليوم دون مواربة: ثمّة خفَّة مرعبة – لا أستطيع أن أعلن تعاطفي معها – في العلاقة بين الكاتب وكتابته، ثمّة تسرُّع كنت أتمنَّى أن يُصاب – ولو قليلًا – بالعطب، كي يأخذ أصحابه بعضًا من الرّاحة ليعيدوا النّظر فيما كتبوه، النّجومية حجاب كبير، النجومية سيّئة السّمعة على الدّوام، ربّما لهذا السبب صرت أسمع من وقت إلى آخر من يصرخ في الآخرين: “هذا ما جناه الـ “Like” عليَّ.. وما جنيت على أحد”، صارت التجارب الكتابية تخرج لتمرّ مرور الكرام، وصرت أرى من يندهش من أن كتابته لم تخلِّف في الآخرين أثرًا، فأجدني أردّد – بيني وبين في نفسي -: “وكيف تريد لكتابة لم تُنكِّل بكاتبها.. أن تُنكِّل بقارئها يا غشيم”؟!
كتابات كثيرة اليوم صارت هكذا، تخرج إلى النور مكلّلة بثقّة لا تهتز في النّفس، ثقة يقينية تجعلني أتحسّس مسدس وساوسي العديدة، أتفقّد زناده متهيّئاً لأيّة حركة غدر أو ضحك على الذقون، صرت أكثر تشكّكاً وأكثر بُخلاً في السّماح بالمزيد من الوقت لقراءة عمل ما لم يجذبني منذ الصّفحات الأولى، ربّما صرت أسرع في إصدار الأحكام عن ذي قبل، أو ربّما كان العيب فيَّ وليس فيما أقرأ، فالذّات الإنسانية مملوءة هي الأخرى بالأمراض والهواجس والظنون، ونحن في النهاية بشر، لنا قدرة على التحمّل، إن تخطّيناها.. أصابتنا في مقتل.
قبل أحد عشر عاماً من الآن، وتحديداً في العام 2004 غادرت مصر إلى بلجيكا، واكتشفت أنّ لديّ من الوقت ما يفيض عن الحاجة، فبدأت في تأسيس موقع إلكتروني لقصيدة النّثر المصرية، وحينها، لم يكن هناك انتشار حقيقي لفكرة المواقع الثقافية العربية على شبكة الإنترنت، كان المثال الأنجح والأكثر تأثيراً حينذاك هو موقع “جهة الشعر”([3]) الذي أنشأه الشّاعر البحريني قاسم حداد([4])، وشكّل حينها أرشيفاً إلكترونياً متفرّداً لجديد الشّعر العربيّ، وعلى هذا النّحو رغبت في أرشفة الشّعر المصري الجديد إلكترونياً، خاصة وأنّ هناك الكثير من المجموعات الشّعرية التي كانت تصدر وقتها قد نفدت ولم تعد متاحة أمام القرّاء، ولفت الموقع نظر الكثيرين من المتابعين العرب خصوصاً إلى أصوات الشّعر المصري الجديدة، وأغلبها من جيل التسعينيّات، تعاملي اليومي مع هذا الموقع البسيط ولمدة عامين جعلني أكتشف التأثير الحقيقي الذي لعبه الإنترنت في الحالة الثقافية العربية خلال السّنوات العشر الأخيرة، فبعد أن كانت القصائد أو النّصوص تأخذ فترة في النّشر محكومة بتوقيت صدور الدورية الثقافية أو المجلة الأدبية، صار الأمر في حالة الإنترنت أسرع وأكثر سهولة، وزاد الأمر سوءاً مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتعملقها على الشبكة العنكبوتية، والتي سهّلت بدورها من الأمر وبسّطته إلى الحدود الدنيا من الجهد أو الانتظار أو التأنّي: اكتب ما تريد وانشر ما تشاء واسمع الآراء والانتقادات، واحظ بالـ “Like” والـ “Share”، ونم فرحاً سعيداً.
كان هدفي الأساسي من الموقع الإلكتروني آنذاك هو إتاحة جديد الشّعر المصري إلكترونياً على شبكة الإنترنت، وتخطّي العديد من مشكلات توزيع الكتاب الورقيّ في العالم العربي التي نعرفها جميعاً، تلك المنظومة التي لا أعرف لماذا لا تزال معقّدة، رغم مزاعم التعاون الثقافي المستمر بين البلدان العربية، فحين زرت الجزائر في العام 2009 والمغرب في 2013 وحتى بعض بلدان الخليج العربي كالبحرين في 2009 والإمارات في 2015، اكتشفت تعطّش المثقفين العرب إلى الكتاب الصّادر في لبنان أو مصر أو العراق أو سوريا، تعطّشنا نفسه في القاهرة إلى كتب تصدر في الجزائر أو المغرب أو تونس أو بلدان الخليج العربية، وفي هذا الإطار استطاع الموقع على بساطته أن يصل بالشُّعراء المصريين الجدد إلى قرّاء البلدان العربية، وحقق حضوراً لم أكن أتوقّعه أو أحلم به لكتبهم وأعمالهم غير المتاحة ورقيًا، لا في هذه البلدان ولا حتى في القاهرة!
مع مرور الأعوام، بدأت رقعة انتشار المواقع الإلكترونية الثقافية والأدبية تزداد في العالم العربي، وصار للعديد من الدوريات الثقافية والأدبية والصحف مواقعها الخاصة على الشبكة العنكبوتية، ما أتاحها أمام القراء العرب من المحيط إلى الخليج في صور إلكترونية بدأت تسحب البساط من تحت أقدام النسخ الورقية، أزال الإنترنت الكثير من العقبات التي كانت تحول قديماً دون توزيع دوريات ثقافية وأدبية ذات شأن في جميع البلدان العربية، متخطّية في ذلك الكثير من الرّقابات العربية التي كانت تمنع بعضها أحياناً، هذه التغيرات السريعة التي نتجت عن تسيِّد الإنترنت قدّمت إلينا العديد من المساوئ والحسنات جنبًا إلى جنب في المشهد الثقافي العربي الراهن، صحيح أن المواقع الإلكترونية الثقافية أظهرت حسًّا أكثر ليبرالية في التعامل مع النصوص التي تقوم بنشرها، إلا أنّها في المقابل انفتحت على ظواهر كتابية لم تكن لتظهر لولا وجود الإنترنت، مثل ما عرف قبل عدّة سنوات بظاهرة “كُتَّاب المدوَّنات”، والتي شكّلت نوعًا كتابيًا جديدًا يخلط ويمزج بين الفنون الكتابية في مزيج غير مسبوق، في صور عدّة من الحكي والشِّعر والسّرد والسخرية وخلط اللغة العربية الفصيحة باللهجات العامية المحلية، لتجد نفسك حائراً في تصنيف مواهب من كتبوها من شبّان وشابات في مقتبل أعمارهم، شجّعت هذه الكتابات مع انتشارها ونجاحها كتَّابها على أن يصدروها في صورة كتب مطبوعة، لتنتج لنا مستوى مختلفا ومغايرا من الكتابة التي لم نكن لنشهدها إلا في وجود الإنترنت!
في ظلّ هذا الزّحام الإلكتروني والورقي والمرئي والمسموع، وفي ظلِّ كلِّ هذه المتغيرات السياسية والاجتماعية التي تعصف ببلدان العالم العربي اليوم، نجد أنّ معدّلات القراءة التي كانت في حالة يُرثى لها قبل عدّة سنوات، صارت تتحسّن في ظلّ وجود الإنترنت بحسب كثير من الإحصائيات العربية، ودون الدّخول في مناقشة طبيعة أو نوعية هذا التحسّن القرائي من النّاحيتين الكمّية والكيفيّة، أرى أنه حان الوقت لنبدأ في دراسة الـتأثيرات التي خلّفتها الثورة التكنولوجية لوسائل التواصل الحديثة على إنتاجنا الأدبي في السنوات العشرين الماضية، ربّما حينها نعرف السّر في ازدياد نسبة تسطيح الوعي التي نحياها اليوم في بلداننا العربية.. أدبياً وثقافياً وفنياً ومجتمعياً!
[1]من أشهر المجلات والدوريات الأدبية التي كانت تحرص على الردّ على نصوص وقصائد المواهب الشّابة في باب “بريد القرّاء” مجلّتي “إبداع” و”الشِّعر” المصريّتين.
[2]كي نؤرشف كتاباتنا قبل ظهور الإنترنت، كنّا نقص الصفحات من المجلة أو الصحيفة لنلصقها على ورق أبيض، ونؤرخها مرتّبة حسب تواريخ النشر، ثم نحفظها في دفاتر وملفات ذات أغلفة سميكة، كأنّنا نحتفظ بجثث نصوصنا الأصلية محنّطة لتقاوم عوامل الزمن، الآن تولى السيد “جوجل” المهمة عن جدارة، بعدما صار لكلّ مجلّة أو صحيفة أرشيفها الإلكتروني على شبكة الإنترنت.
بقلم عماد فؤاد
مجلة ذوات