الرّفاعي وحراسة الجمهوريّات
الرِّفاعي وحراسة الجُمهوريّات
سامي معروف
“حارس الجُمهوريَّة”؟ أم “حارس الجُمهوريّات”؟! أقصد جُمهوريَّةَ الصِّيغَة، ومرحلة المأساةِ اللبنانيَّة منذ الـ75، ثمَّ ما اصطُلحَ على تسميتِهِ بالجمهوريَّة الثانية أي ابنة دستور الطّائِف. ومن عنوان الكِتاب يظنُّ القارئ أنَّه يتمحور حولَ رئيس الجمهوريَّة كونَه الحامي والحارس الأوّل للجُمهوريَّة دُستورًا وتطبيقًا! فهل هناكَ حرُّاسٌ للجمهوريَّة غيرُ الرِّئاسات الثلاثة؟! فوجَدَ واضعُو الكِتاب في النّائب الأستاذ حسَن الرِّفاعي أحدَ حُرَّاس هذه الجُمهوريَّة المُنهَكَة؟ وفي كلا الحالتَين “ليسَ للقانون الدّستوري أيّ ضابط سوى حُسنِ نيَّةِ وأمانةِ الرّجال الذين يُطبّقونه، ولا سيَّما رئيس الجمهوريَّة” كما وردَ في الصَّفَحاتِ الأولى. الكِتابُ بالاجمال دسِمٌ ومُمتعٌ جدّاً، يَمتزجُ فيه السَّردُ الرِّوائِيّ بالسّيرةِ الذَاتيَّةِ بالتاريخ والتأريخ بالقانون الدّستوري. والذين حَرَّروا هذا الكتابَ المشوّق قصدوا “الفَوْكسَة” على شَخصيَّةٍ سياسيَّةٍ لبنانيّة عريقة هي النّائب الأستاذ حسَن الرِّفاعي، فإذا بهم يؤرِّخون لنا مرحلةً من تاريخ لبنان المُعاصر، وقد تكون الأكثرَ أهميَّة في تاريخِه الطّويل. ذلِكَ أنَّ الدّيناميَّة الدُّستوريّة اللُّبنانيَّة المُرتكزَة في جوهرِها على صيغَةِ الميثاق كانت عرضةً للاهتِزاز والتَشَوُّهِ.. حتى التَّعطيل! أثناء ملاحِمِ الصِّراعات والمَخاضات التي اجتازَها الشّرق منذ الأربعيناتِ حتى ذُروتِها في مَعرَكةِ سوريا. نِصفُ لبنانَ ترسُّباتٌ عُروبيَّة، والنِّصفُ الآخر حَنينٌ إلى حنانٍ وَرَاعٍ غَربيّ. وعندَما يتحاربُ الغربُ والشَّرق، ولبنان في قلبِ جغرافيا النّزاع، تحدُثُ الفًصاميَّة بينَ القلبِ والعاطفة.. بينَ اليَدِ والرِّجل.. وينزفُ الوَطن! حتى آمنَ البعض أنَّ لبنانَ مَخلوقٌ مُهَجَّن مُستَحيل، لا هو قادرٌ على الحَيَاة ولا يُمكِنُ أن يموت. حَسَن الرِّفاعي عاصَرَ الأزماتِ الكبرى في مسيرَةٍ طويلةٍ شاقَّة، وكانَ سيّافًا عندَ بابِ الدّستور، وحارسَهُ في وَجهِ الدُّخَلاءِ المُبتدعينَ المارقين. أقلُّ ما يُقال في آرائِهِ وَمَواقفِهِ “أنَّه ميثاقِيّ مُقتنعٌ بالنِّظام الجُمهوريّ البَرلمانِيّ الدِّيمقراطي، ومؤمنٌ إيمانًا راسخاً بصيغة 1943، التي هي الشَّكلُ الأمثل واقعيًّا.. في بُقعَةٍ صَغيرَةٍ تُنهِكُها التَعدُّديَّةُ الطّائفيَّة والحِزبيَّة. والذي حَفَّزَ عنونَةَ الكِتاب بـ (حارس الجُمهوريَّة) هو مَوقفُ الرِّفاعي البارز من اتِّفاقيَّة الطّائِف التي رآها توليفةً منَ الغَرَائِبيَّاتِ والهَرطقاتِ الدُّستوريَّة. الرِّفاعي سِنِّيٌّ بعلبَكيّ، مُعتدلٌ دُستوريٌّ متسامح. خلفيَّتُه الثَّقافيَّة وبيئتُهُ ألَّفَتْ كيمياءِ شَخصيَّتِهِ وذِهنيَّتِهِ المُميَّزة. زَغبَتْ ريشاتُهُ في المدرسةِ البروتستانتيَّة في بعلبك حيثُ أحَبَّ فتاةً مسيحيَّةً بصمت! ثمّ في (مدرسَةِ المطران) وصولاً إلى (المدرسةِ الشَرقيَّة) في زحلة. ويصفُ مجتمعَ بعلبك بأنّه مجتمَعٌ مختلط اكتَسَبَ فيه السُنَّةُ والشِّيعَةُ بعضَ وجوهِ التَحضُّر من المسيحيّين. ومن خلالِ مطالعتِنا لمَرَاحل هذه السِّيرَةِ الشَيِّقة، نرى أنَّ الفُقهاءَ الدُّستوريِّين “اللاّهوتيِّين” كانوا دائِمًا مجرَّد رأيٍ ومَشورَةٍ على هامشِ إدارةِ البلاد، في حين أنَّ الزُّعَماء همُ القادَةُ الفِعليِّين للوَطَن.. ويا ليتَهُم طبَّقوا مَشوراتِ الدُّستوريِّين! مقدِّماتُ الكِتاب مجموعة منَ السَّرديَّاتِ المُوفَّقَة عن خلفيَّةِ أسرَةِ الرّفاعي وبدايةِ كفاحِه في الحياة.. منذ المقاعدِ الأولى حتى دراسة الحقوق في دمشق، ثمّ العمَل الفاشل في التّجارة في البرازيل، وأخيرًا العودَة إلى المُحاماة ثمَّ الزّواج، قبلَ أن تفتَحَ لهُ السّياسَة المِصراعينَ ليلجَها نائِبًا عن المقعَدِ السنِّيّ في بعلبَك في لائِحة صبري حماده بفارق 400 صوتٍ عن منافسِهِ في إنتخابات نيسان 1968، مع النّفوذ القويّ للشُّعبةِ الثانية في عهد الرَّئيس شارل الحلو، وبعدَ ذلِكَ وزيرًا للتّصميم في عام 1973. والنّقاطُ الهامّة في ما تبقّى من الكِتاب هي تلكَ الوِقفاتُ الدُّستوريَّة المُتميِّزَة والشُّجاعَة للرِّفاعي أثناءَ المحطّات المفصليَّة والعلامات الفارقة في لبنان الحديث. بدءًا بالشِّهابيّة التي لا يُنزِّهُها عنِ الأخطاء.. بلِ الفساد.. حتى في ظروفِ انتِخابِهِ الأوّل كنائب عن بعلبَك. ويلي ذلِكَ الوجودُ الفلسطينيّ المسلَّح واتّفاقيبَّةُ القاهرَة التي وافقَ عليها كما الزُّعَماء المسيحيِّين، واعترضَ على التَّطبيق السيِّئ لها. ثمَّ تنبيرُهُ الدّائِم عنِ الاحتكارات ومافياتِ الفساد في السَّبعينات. إعتراضُهُ على استمرار الوجودِ السُّوري بعدَ حربِ السَّنتَين، لعَدَم تقديمِهِ حلاًّ للبنان. وهكذا دفاعُهُ ودعمُهُ المُطلق للجَيش أثناءَ اشتباكات الفيَّاضيَّة معَ السّوريِّين، فرفضَ وضعَ الجيش تحتَ إمرَةِ رئيس الجُمهوريّة. رفضُهُ لـ 17 أيّار بالمُطلق وكانت نقاشًا بَرلمَانيًّا آنذاك. وأيضًا ظروفُ انتِخاب الرَّئيس بشير الجميِّل، ومُحاولةُ اغتيالِ الرِّفاعي في بيتِهِ، وضلوع أطراف قوّاتيَّة وربَّما سوريَّة في القضيَّة. عدَمُ ارتياحِهِ لمعاهدةِ الأخوَّةِ والتعاون والتّنسيق بين لبنان وسوريا. وأخيرًا اعتراضُهُ الكبير على دُستور الطّائف وما يحويهِ من شوائب وأخطاء. لقد شخَّصَ الرِّفاعي باكرًا جدًّا مشكلةَ البلَد في قضيَّةِ مشاركة المُسلِمين، منذ بدايةِ السّبعينات، وأثنى بصوتٍ عالٍ، على التَّعديلاتِ الدُّستوريَّة التي أقِرَّتْ آنذاك لصالِح الرِّئاسَة الثّالثة. وعشيّة الطّائف كانَ الرِّفاعي يرى جيِّدًا الفسادَ، وتراكماتٍ من زمَنِ الحَرب، وتسخيرَ الدّستور للمَصالح، وعيوبَ الدّيمقراطيّةِ في تمثيلِها السَيِّئ، فراحَ يَسعى بلا هوادَة لإدخال الأعراف البرلمانيَّة إلى الدّستور، وهكذا تصبح مُلزمَة. بيدَ أنَّ الرِّفاعي كانَ معَ الطّائِف، والطّائِف تعديلاتٌ دُستوريَّة كبيرَة للـ 43! من حيثُ الشَّكل كوَقفَةٍ لإنهاءِ الحَربِ والدَّمار الشّامل في البلَد، على أن يكونَ نقلةً ومَعبرًا نحو إصلاحات حقيقيَّة صَحيحَة خاليَة من الثُغرات تُجرى على يدِ ذوي الاختصاص وهذا لم يحصَل، والذي حصلَ هو ممارسات شوّهَتِ الديمقراطيَّة واستغلَّتِ الثغرات للمصالِح والمآرب. فقالَ في مؤتمرٍ صحافيٍّ: “إنَّ العَودَة بعدَ الطّائف ستُورِّثُ الأجيال أسوأ الأنظمَة وأسوأ مثل للممارسات”، و”إنَّ الطّائِف نقلَ الحُكمَ في لبنان من صراع حُكمِ الرِّئاسَتَين إلى صراع اللاَّحُكم”. والرَّجُل الذي رأى في النَّهجِ الشّهابيّ وجوهَ فساد ولم يُذعن، والفسادَ الاقتصاديَّ وكانَ موبِّخًا، والوجودَ السّوريَّ وكانَ معترضًا، فهل يقبلُ ببُنودِ تسويَةٍ أنهَتِ الحَربَ الأهليَّة، وأمَرَاءُ الحربِ رُعاتُها وناسجو قماشَتِها؟ مواقف حسَن الرِّفاعي الدُّستوريَّة والإصلاحيَّة جَعَلتْهُ جديرًا بلقبِ (حارس الجُمهوريَّة).
سامي معروف
السبت 10 آذار 2018
MONlIBAN