وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

ثقافة ميليشويّة

ثقافة ميليشويّة

اِحصوا نبضاتكم جيدًا لأن الأدرينالين سيتدفق في شرايينكم بلا هوادة وسيتضاعف خفقان قلبكم عند قراءتكم رواية “الفنّ الأسود” الصادرة عن دار سائر المشرق للنشر للكاتب والمتخصّص في الأدب الميليشياوي الأستاذ سامي معروف.
يشقى الحزن من اللوعة في رحاب الصفحات، كلّما قرأنا إسقاطًا يتضاعف ألمنا على ضحايا كلّ حزنٍ حضنته السطور. بداية الرواية (الصّورة) مقطع يدل بوضوحٍ على الإرث الإرهابي لعائلة النجّار من النّبك في سوريا ويرسم شجرة العائلة الصغيرة من الجد حارث إلى الحفيد حارث مرورًا بالأب ملحم الذي تلقى (قتلة) مضاعفة من أستاذه ووالده، كانت هذه القتلة بذرة زُرعت في أرض صالحة للشر فأنبتت مكرًا متأصلًا في ولد يدعى حارث على اسم جده فقد ورث الاسم والصفات من دون هويّة لأن هويّته فُقدت منه وأصبح نكرة بعد لجوء عائلته إلى لبنان وإدخاله إصلاحية، ما من صلاحٍ يستطيع أن يغيّر نكرة تأصّلت في داخلها جميع الشرور لتصبح شبحًا يقتات من رعب الآخرين.
تتتابع الفصول المدوّنة من قبل حمداش الجابري صديق حارث الحفيد الملقّب بـ”أبو غبرة” هذه الفصول قد أُسقطت في هذه الرواية متتالية بتسلسلٍ زمني فرضته ظروف الحرب اللبنانية. الإسقاط الأول يصف عنتريات أبو غبرة عندما كان ينتمي إلى القوّة الضاربة في حزب المردة 3/400، غرامه بفتاة زغرتاوية، إحباطه عرسها علانية بالقوّة والذي كان محضّرًا سرًّا في مدينة البترون مما سبّب بمعارك شرسة بين الميليشيات المتصارعة. الإسقاط الثاني فصل مثير من فصول بطل الرواية وبورصة حياته المشقلبة، قصة التحاقه بالقوّات اللبنانية على حاجز البربارة باِسمٍ وهمي (سايد مخلوف) وهويّة مزورة، تخلّل هذا الإسقاط عمليات سرقة سيارات فخمة بطرق مبتكرة تعجز عنها أخطر المافيات الإيطالية.
إسقاط ثالث ورابع… وسابع بنهجٍ مبتكرٍ من عمليات سرقة السيارات الفخمة، المصارف، الابتزاز الجنسي، الخطف والتسويات التي لا تخطر عل بال أحد. في كلّ مرّةٍ يدخل فيها حارث ملحم النجّار السجن باِسمٍ منتحلٍ وهويّةٍ جديدةٍ لشخصٍ لا هويّة له تكون استراحة بحاجة إليها وانطلاقة لأعمال ترهيبٍ بعد الترغيب ونصب شباك كشباك عنكبوت لشخصٍ بأربعين عينٍ وفكرٍ متّقدٍ مبدعٍ للشر. لم يظهر أبو غبرة عاريًا من الإنسانية في كلّ ما فعل، ففي لمحات من الرواية كان يُحسن للمظلومين من الظالمين الأثرياء. شخصيةٌ لم تحسب حساب للعابرين في حياتها المضطربة، ذابت سريعًا في فساد المجتمع، حيلتها للإستمرار في الحياة النصب، الغش، والإرهاب الممنهج. في كل قراءة للواقع من قبل أبو غبرة يجد نفسه داخل النفق المؤدّي لما وراء قضبان السجن. لم يكن الابن الضال الذي يريد العودة للصواب وسط الزحام الممتلىء بالأسلحة، الأموال المنهوبة، النساء الجميلات، ونشوة الانتصارات بعد كل عملية موصوفة بالدهاء والخطورة. كان يداعب المستحيل بتصميم فائق الإحتراف، لم يحتضن الصلاح يومًا فقد كانت الأقنعة الملونة والأدوار المتنوعة على مسرح الجرائم تمنعه من رؤية البسمة الصافية للتوبة كي تحضنه بعد كلّ ظلام.
سردٌ شيّقٌ لكاتب متمرس في أدب المجتمعات العسكرية غير الشرعية عهدنا مثيله في روايته فطير الشرق. وصف سامي معروف عزلة بطل الرواية فوق إمارة السوء وسط زحمة آلهة النفاق. سطور كُتبت بأناقة الرصاص ووجل الرعب، حوت غيومًا ملبّدة أرضعت عواصفها رجلَا يلهو بأقدار ضحاياه، ممارسات الشبح “الغبراوي” رقص أنيق على حفافي سهول الذئاب العابرة عبر أشواك الدروب، كان “كباشق الدّلم” يرافق السرب ويأكل منه.
لماذا يا سامي معروف أعطيت صك براءة لشبح الرعب المتسلّط نهاية روايتك (خلاصات) ألهذا الحدّ مربكة نهاية الروايات المتولدة من رحم الأعاصير وقوانين المافيات الجائرة؟ شبحك وُلد في قمقمٍ رغم المرافعة المكتوبة من قبل المحامي البارع ليترافع بها أمام القاضي، فإذا كانت البراءة نصيبه فعدالة السماء لن تموت، ربما سيجد ربًا رحومًا لكن بعد الحساب العسير. شبحك بقي دودةً في شرنقةٍ ولم يتحول إلى فراشة جميلة تدل على ألوان الحياة، شبحك وطواط عاش على دماء الظلمة وعفن المجتمعات.
أدب سامي معروف ترك هراء الأقنعة من دون صخبٍ، كأنه سنبلة بقلبها الممتلىء معانٍ تنحني لنسمة الحقائق تواضعًا محاولةً إستعادة إنسانية منكوبة بكفر آلهة المتعة وأسرار الخوف. حبره خربش عذرية الوطن برسومات ممارسات الميليشيات على دروب الانتحار اليومي وشغف الهاوية.
يوسف طراد
الثلاثاء 8 تشرين الأول 2019

Comments are disabled.