ميزان الأدَب
ميزان الأدَب
مقال
بعدَما ألقى شاعرٌ قصيدةً وعادَ إلى مكانِه، سألتُ أكاديميًّا جالسًا بقربي:
– ما رأيُكَ؟ فأجابني بأنّها قصيدة جيّدة وغنيَّة بالصُّوَر.
وعندما كنّا نشرب القهوَة في الرَّدهَة سألتُ واحدًا آخر عن رأيِهِ في القصيدة عينِها، فقال لي جازمًا:
– هذا ليسَ شِعرًا! وراحَ ينتقدُ كلمةً في القصيدة زاعمًا بأنّها شوَّهَت القصيدَةَ المؤلَّفَة من ثمانيَة عشَر بيتًا.
تسَاءَلت: تُرى أيٌّ منهما على حَقّ؟! وعندما قالَ لي مرّةً مثقَّف أنَّ أدونيس لا يُعجبُه، وآخرُ أنّه لا يُطيقُ عبد الوَهّاب البيَّاتي، وآخر أنَّ سعيد عَقل لا يعني له شيئًا! أصابتْني هذه الأحكام في الصَّميم. قلتُ لنفسي ليتَ هناكَ مقياسًا علميًّا دَقيقًا، أو آلةً شبيهَة بالتي يقيسونَ بها المسَافة والوَزن والسُّرعة والطّاقة وغيرَها، نستطيعُ أن نقيسَ بها الأدَب! لماذا لا يكون هناكَLitteramometre من كلمة Litterature مثلاً، نزنُ به النّتاجَ الأدَبيّ؟ ويَستدُّ كلُّ فمٍ يُقيّمُ الأدَب وفقًا لمزاجيَّةٍ لا تخلو من الذّاتيَّةِ في معظم الأحيان. بيدَ أنَّ الأدَب قيمَة روحيَّة لا تقاسُ بالأرقام: عدَدِ اللاّيكات أو المُشاركات أو الحضور في التّوَاقيع أو نسبَةِ البَيع أو عدَدِ الطّبَعات أو الجوائز الأدَبيَّة، فسَعيد عقل لا يَبيع عشرَة بالمئة من نزار قبَّاني! هذا والتّقييمُ الأدَبيّ مرتبط حتمًا بالذّائقَة وسِعةِ الثقافة والحِسّ الجَماليّ المدَرَّب. ولكن إذا كانت المعاييرُ الأدَبيَّة متبدّلة بتبدُّلِ الأزمنةِ والأمَكنة والمَدارك، فأحكامُنا في الفصلِ بينَ غثِّها وسَمينِها باطلة، لأنّ ما نحسبُه اليَومَ قيّمًا قد يكون في الغدِ هزيلاً قبيحًا. تُرى ما الذي جعلَ رواية البؤَساء خالدة؟ أو رواية الأمّ لمَكسيم غوركي، أو دون كيخوته، أو فاوست، مئَة عام من العزلة، جَحيم دانتي، العَجوز والبَحر، مرتفعات وذرينغ، دايفيد كوبرفيلد، إلياذة هوميروس، الرَّغيف لتوفيق يوسف عوّاد؟ لماذا تُضفي السّنون على هذه الآثار العملاقة جلالاً وبهاءً؟ أليسَ في خلودِها دليلٌ على أنَّ في بعضِ الأدَبِ ما يتخَطّى حاجز الزَّمان والمَكان؟! أليسَ هناكَ ثمَّة معايير راسخة للأدَب لا تعبثُ بها الأذواقُ الماجنة والتّنظيراتُ المجَّانيَّة؟
يُخطئ كثيرًا من يظنّ أنَّ الأدَبَ يُوزَنُ بأوزانِ الفراهيدي ولغَةِ سيبَوَيه، ومهارةِ اللّعِب بالمفردات، وصَخَبِ المَعلومات، وتنظيم المقدّمَة والذّروَة والخاتمَة في الإنشاء، أو الإلقاءِ الجيّد الأخّاذ، مع حاجتِنا الماسَّة إلى هذه جَميعِها، ولكنّها ليسَت جوهرَ الأدَب. لماذا نكتب؟ ولِمَن نكتب؟ وكيفَ نكتب؟ يقول توفيق الحَكيم: “الأدَبُ هو ذلكَ الشَّيْءُ الذي يتّصِلُ اتّصالاً مباشرًا بالجَّوهر الثّالث في كيانِ الإنسان”، ولا أدري إذا كانَ ميخائيل نعَيمِه يوضّح حقيقة هذا الجَّوهر الثّالث حيث يقول: ” إنَّ الأثرَ الأدَبيَّ الخالد هو ما كانَ فيه بعضٌ من الرُّوحِ الخالدَة”. ولكنّي أعتقدُ أنَّ الجَّوهرَ الثالث هو المَلَكات أو الحَاجاتُ العُليا في الإنسان. إذا كانتِ الحاجاتُ الدُّنيا هي الغِذاء والأمان واللذّة، فالحاجاتُ العُليا هي إسقاطاتٌ نفسيَّة.. وهنا تكمُنُ عمليَّة التّقييم الجَماليّ. فكلّما جمَعَ الأثَرُ الأدَبيّ من هذه الاحتياجاتِ العُليا للنَّفس أكثرَها اقترَبَ منَ الكمَال. فما هي تلكَ الاحتياجات وما هو هذا الجَّوهرُ الثّالث، وما هو الميزانُ الحَقيقيّ للأدَب؟
1-إنّه أوّلاً حاجتُنا إلى الإفصاح والتّعبير، والدّافعُ العَميق في الوجدان للتحَدُّثِ عن تجَاربِنا: إخفاقِنا ونَجاحِنا، لذّتِنا وأَلمِنا، حُزنِنا وفرَحنا، خوفِنا وطمأنينتِنا، خيبَتِنا وأمَلِنا. وهو ليس السَّردَ العاديَّ المألوف، وإنّما التّعبير ببلاغةٍ لنَقلِ هذه التأثّرَات إلى الآخرين في ثوبٍ لائقٍ بها.
2-وحاجتُنا أيضًا إلى الموسيقى، تلكَ المَلَكة المتأصِّلة فينا لابتِكار النَّغَم والألحان والأصواتِ المتناسِقَة في الكلام. الشِّعرُ في الجاهليَّة كانَ زَجَلاً أي غِنائيًّا، والشِّعرُ الدّينيّ عند الشّعوب القديمة كذلك، واستُخدمَ السَّجَعُ في النَّثر لمرحلةٍ متقدّمَة، والمَسرَحُ عند الإغريق كانَ شِعريًّا. ويقول نعَيمِه عن جبران بأنَّ له ولَعًا في التَّنغيمِ بينَ المقاطِع والمفرَدات في كلِّ نثرِه.
3-والحاجَة إلى الحُريَّةِ كنافذةٍ مشرفةٍ على بقاعاتِ الخَيالِ الرَّحبَة. فالصَّفحاتُ البَيضاء هي قفزةُ الكاتب من قمَّةِ العَينيَّةِ الرَّتيبَة إلى فضاءِ الهمومِ والرُّؤى والطّموحاتِ المنثورةِ طيورًا غريبَة مَسبيَّة إلى واقعٍ آخرَ موازٍ يتَحَدَّى الواقعَ الحِسِّيّ.
4-وإلى الجَمَال: فالإنسانُ كائنٌ جَمَاليُّ النَّزعَة شبيهٌ بخالقِهِ. إنّها مَوهبةُ التَّنسيقِ والتّنظيم والتّزيين والتّلوينِ والابتكار، بل هو عطشُ الرُّوحِ إلى الرُّوحِ الكلّي، وهنا عَودٌ إلى الجَّوهر الثّالث عندَ توفيق الحَكيم. ومهما تفاوتتِ النَّظرَة نحو الابداعاتِ والآثار الجَميلة فثمَّة جَمالٌ مُطلق في الحَياة لا يختلفُ عليه اثنان.
5-والسَّعيُ إلى الحَقيقة: نقرأ أحيانًا كتابًا يُدخلُ الطّمأنينة إلى قلوبِنا، ويُغيّر نظرَتَنا إلى الحَياة. وتلكَ وَظيفة من وظائفِ الأدَب أن يقدّمَ للنّاس النّور والهُدى. الأدَبُ مسؤولٌ عن بناءِ الحَياة من خلالِ بَسطِهِ للحَقائق. يقول فؤاد كنعان: “إذا لم يحملِ الأدَبُ في ذاتِه الطّاقة على الهَدمِ والبناء، وإذا لم يكنِ الأدَب ذاكَ الضَّميرَ الذي يَدينُ ويُدان.. فلماذا الكِتابة ولماذا القراءَة؟”. ويقول إميل زولا: “تخشى الدُّوَلُ الأدَب لأنَّه قوَّة تَخرُجُ عن سَيطرَتِها”. وإذا كانَ الإعلاميُّ المثقَّفُ قد حمَلَ هذه الرَّاية في زَمنِنا الرّاهن، فواجبٌ على الأديبِ أن يستعيدَها ويعودَ سيفًا يُريعُ الخطاة، وكما قالَ فولتير: “إنَّ القلَم الذي تحملونَه أعِدَّ لتُغمِدوهُ في قلوبِ الشَّياطين الظَّالمين، وإن لم تفعلوا فأغمدوه في قلوبِكم”.
6-وحَمْلُ الرِّسالة. فالأدَب هو استباقٌ للحَياة بحَسبِ أوسكار وايلد. والأدَب العَظيم هو صاحب قضيَّة. قضيَّة خليل حاوي سياسيَّة، قضيَّة تشيكوف إجتماعيَّة، قضيَّة ديكنز إنسانيَّة. الثَورَة الفرنسيَّة بنتُ فلاسفتِها وأدبائِها: روسّو وفولتير وديدرو ومونتسكيو. والنّازيَّة في ألمانيا وَليدةُ الفِكر النِّيتشَوي وبحثِه عن السّوبرمان، والميكيافيليَّة أيضًا، فقد كانَ هتلر يضعُ كتابَ “الأمير” لميكيافيلّي تحتَ الوسادَة ويقرأه يوميّاً كأنّه الإنجيل. وكانَ في طليعَةِ القوميَّةِ العرَبيَّة جبران ونعَيمِه والرّيحاني. فالحَياةُ والأدَبُ توأمانِ لا ينفصلان، الأدَبُ يتوَكّأ على الحَياة والحَياةُ على الأدَب.
7-والغاية حتمًا هي الإنسان، لأنَّ الأدَبَ رسولٌ بين روحِ الكاتبِ وروحِ سِواه. والأدَبُ الذي يخلو من الإنسان فانٍ. الكتابة الحَقيقيَّة ليست لمتعةِ الإنسان وكفى بل لخَيرِه ونفعِهِ وعَضدِهِ والارتقاءِ به نحو الأفضل.
والكتابة في هذه الأيّام، شِعرًا كانت أم نَثرًا، فيها من الافصاحِ الجيِّد ومنَ الموسيقى والجَمالِ الرَّائع ومنَ الحُريَّةِ المُمتاز! ولكنَّها لا تعمِّرُ طويلاً لأنّها أدَبٌ ناقص. والأدَبُ العابرُ للأجيال هو الذي يحملُ رسالةً ويُخاطبُ الإنسان ليقولَ له الحَقيقة. وأرجو أن أكونَ في حُكمي هذا قد أطعتُ كلمةَ الفادي حيث أوصى في يوحنّا 7 : 24
“لا تحكموا حَسب الظّاهر بل احكموا حُكمًا عادلاً”،
والسّلام.
في 7 تشرين الثاني 2020