خاتمة بالشّمع الأحمر
قصّة قصيرة
بعدَ اثنتَين وعشرين سنة أمضاها في السّجن الفدراليّ في ولاية إنديانا الأميركيَّة، خرَج وعادَ إلى الوَطن.
عاد يبحثُ عن أطلالٍ وأشباح.. عاد يلملم نِثارَ جموحٍ مريضٍ في زمَنٍ مسعورٍ كان فيه الجنون فضيلة. خرجَ إلى الحياة وهو يظنُّ أنَّ بمقدوره أن يُفصِّل للرُّوحِ المَشبوبةِ فيه عباءَةً من سنوات منتصف العُمر الفاترَة، أو ان يصنعَ ولادتَه الثانية! وهو يعلمُ يقينًا أنَّ حَظَّه في موتٍ ثانٍ أو ثالثٍ أوفر.
رأى صَديقَ المُراهقَةِ والجنون ينتظرُه بسيّارتِه الأودي بعيدًا خارجَ الرَّدهَة. كانَ اللّقاءُ الأخيرُ للصَّديقين، والقضبانُ الحَديديَّة تفصلُ بينهما، منذ ثلاثة أعوام، والاتّصالاتُ الأخيرَة عبر الهاتف كانت لترتيب موافاتِه إلى المَطار. وكانَ العِناقُ دامعًا صامتًا كعِناقاتِ مجلس العَزَاء.
“خذني إليها يا عَدنان”.
كانت كلماتُ أديب الأولى في أرضِ الوَطن راجفة متعثّرة، تشبهُ هديلَ الحَمام في يومٍ ماطر، أو لجاجاتِ الطّفولة إلى ألعابِها، أو استغاثةَ غريقٍ تعاركُ راحتاه الهَواء.
غاصَت عَينا عدنان مليًّا في وَجهِ أديب، وسأله:
– أتظنُّها تعودُ إليك؟ فأجابَ أديب:
– في قلبي وَمضَة أمَل.
وعندما وضعَ عدنان الحَقيبَة في صندوقةِ السيّارَة، وانطلقَ بهما في شوارع العاصمة، راحتِ الافكارُ والصُّوَر تخطو في ذهنِهِ خطواتِ راقصةٍ مبتدئَة، تارةً ذكرًى وطورًا دَهشَة، حينًا خيبَة وحينًا حلُمًا. وجدَ نفسَه في مدينةٍ ليست مدينتَه وبلدٍ ليسَ بلدَه! بيروت الآن ليست هي نفسَها منذ عَقدين: الأبنيَة، الجسور، وسَط المَدينة، المقاهي، الحَدائق، المَتاجر والباعَة على الأرصفة، النّاس.. حتى كلامُ النّاس تغيَّر. كأنّه نامَ نومَةَ أهلِ الكَهف واستفاقَ على وجودٍ لا ينتمي إليه. ثمَّ راحَ شريطُ حياتِهِ يتجلّى لعَينَيه مشاهدَ واثبةً مع رَكضِ الابنيَة والأعمدَةِ والأشجار إلى الوَراء… لقد أحبَّ فريال كثيرًا، كانت حبَّه الأوَّل، وهي بدَورِها أحبَّته. أخلصَت له وأمَّا هو فلا. كانَ أديب نزقًا غضوبًا طموحًا يُحبُّ “الكَيْف”. رُزقا بإنجي ودارين وكثرَت الشّجارات بينهما. عاش سنة مع إنجي وكانَ في السّجن عندَما ولِدَت دارين. ثمَّ جاءَ يومُ الغضَبِ والتمَرُّد.. أو هي “ساعَة التَخلّي” وكانَ ما كان. زارته في السّجن لوَحدِها في سنتِه الخامسَة، وعندَما زارته زيارتَها الثانية والأخيرَة قبل خروجِه بسَبعةِ أعوام كانت وحدَها أيضًا، وكان كلامُها خاتمةً وتذييلاً لقصَّتِهما.
لقد ترَكت له في الودائع لدى إدارة السّجن خمسَة آلاف دولار، وحرَمته من رؤيةِ ابنتَيه اللّتَين ربَّتهُما بالدّموع والمَرارة. قالت له: “لستَ والدًا تفخرانِ به. لقد انتهى كلُّ شَيء بيننا يا أديب.. لكَ حياتك ولي حياتي”.
واستيقظَ من غيبوبتِه تلك على كلماتِ صديقِه:
– إبقَ عندي أيّامًا، ثمَّ تذهب إليها.
– لا.. أرجوكَ يا عَدنان.
ونزلَ عدنان عندَ رغبةِ أديب، وخرجا من العاصمة نحو الأحياءِ الشّماليَّة. وخلالَ نصفِ ساعة كان يركنُ السيّارَة في الباحَةِ التُّرابيَّة قربَ المنزل. بقيَ عدنان في السيّارة وصعدَ أديب السلّم وقرعَ الجرَس. واستطاعَ عدنان في مكانِه أن يسمَعَ جزءًا منَ الكلام الذي دارَ بينَ أديب وفريال:
– إبنتاي يا فريال أرجوكِ.. لا تحرميني…
– لن ترى إنجي ودارين طالما أنا على قيد الحَياة.
– لقد تغيَّرتُ يا فريال، أنا الآن إنسان آخر.
– لم تتغيَّر ولن تتغيّر، أخرج من بَيتي وإلاّ عمِلتُ فضيحَة…
ثمَّ رأى عدنان صديقَه يخرجُ مُطرقًا، نزلَ وفتحَ بابَ السيّارة وقعَد، والخَيبَة أطبقَت على نفسِه وأغلقَت فمَه.
وعادَ أديب بعد أسبوعَين يحاول مرَّة ثانية، وكانت دارين في البيت. وحدث أيضًا شجارٌ وصياح.. دارين تريد الكلامَ مع والدِها وأمُّها تحولُ بينَهما. تألّبَ الجيران وأخرجوا أديب بهدوء. وكادَ الرَّجُل أن ييأس.. لولا انّه ذاتَ يوم.. وكانَ يشرَب الجِعَة وحدَه على شُرفةِ منزلِ صديقِه، غارقًا في دخانِ غَليونِه ودخانِ الحَريق المشتعل في قلبِه، معتمرًا قبَّعَة رعاة البَقر وسالفاه الموَشَّحان بالبَياض يُغطّيان نصفَ خدَّيه. وإذا بعَدنان وقفَ أمامَه فجأةً! كأنّه سِحرٌ من قمقم، وقال له: “عندي لكَ مفاجأة”. وبقيَ أديب صامتًا جاحظ العَينَين.
قالَ عدنان ثانيةً: “إحذَرْ”،
وهمَّ أديب في تهجئَةِ اسمِ فريال: “فف.. فر..”.
فنادى عدنان عندئذٍ إنجي ودارين للخروج إلى الشّرفة. ووقف أديب من فورِه وقال: “أنتَ تمزَح”، فخرَجتِ الفتاتان إلى والدِهما وكانَ اللّقاءُ اللاّهبُ طويلاً. وانسحَبَ عدنان تاركًا صديقَه وابنتَيه يلتهمونَ من الزَّمَن ويذخّرون منَ العِناقاتِ والكلامِ والتّذكارات زادًا كافيًا عمرًا. وهذا هو كامل نصيبِ أديب من ابنتَيه في هذا اللّقاءِ اليَتيم الذي دبَّرَه له صَديقُه عدنان سِرًّا.
بقيَ أديب في بيروت ثلاثة أشهر ثمَّ عادَ إلى أميركا.
وذاتَ يوم، بعدَ حوالي السَّنة، قرِعَ البابُ عند فريال:
– مَحسوبِك عدنان أبو حجَل.. سَمعتِ عنّي بلا شكّ؟
فسألت:
– أنتَ صديقُ أديب؟
وخَطا عدنان خطوَتَين داخلَ الباب وقال:
– لقد ربحَ أديب جائزة الباوربول هو وشريك له في أميركا، وقيمتها مئة ألف دولار أميركي. وأرسلَ لكِ حصّتَه منها أي نصفَها وَديعَةً لإنجي ودارين. وشَريكُ أديب هو زوجتُه الأميركيَّة من أصلٍ لبنانيّ، وهي حامِل منذ شهور. والمال في هذا الظّرف مع رسالةٍ تشرح التّفاصيل. وناولها الظّرف. فسَألتْ فريال والكلماتُ بينَ شفتَيها ميّتَة شبهُ خرسَاء:
– ما هذا.. مَختوم بالشّمع الأحمَر؟
فأجاب عدنان مبتسمًا:
– بل هي خاتمَة بالشَّمع الأحمَر يا سيّدتي.
وخرَج.
كانون الثاني 2021